لا يسع قارئ "قلمي وألمي.. مئة يوم في سوريا"، للكاتبة والصحافية اللبنانية غدي فرنسيس، إلا أن يسأل: ما الذي دفع بفتاة هي في مستهل عقد العشرينيات من العمر، إلى ركوب مغامرة محفوفة بالخطر؟

تحكي غدي في محاور بحثها، عن جملة حقائق ومشاهدات خبرتها خلال شهور ثلاثة، كانت قد أمضتها في سوريا، كمراسلة جوالة، تتابع أخبار الانتفاضة، وتغطي ابرز أحداثها، وتُجري المقابلات مع الناس، المؤيدين منهم للنظام والمعارضين له. وكذلك تلتقي المثقفين ورجال الدين. وتنقل لنا في صفحات الكتاب، آراء جميع هؤلاء ومواقفهم، بموضوعية تامة. فنجدها لا تنحرف، بينما تتطرق إلى مواقف وأحداث شتى، لتنحدر في الإسفاف الذي يسقط فيه صحافيون متحمسون.

تبين غدي في كتابها، انه لم يمهلها رجال الأمن الجنائي في سوريا، كي تكمل مهمتها. فانتهى المطاف بها، بين أيدي رجال المخابرات. إذ قادها هؤلاء إلى الحدود اللبنانية السورية، ومن ثم رحّلت إلى لبنان، بعد رحلة استجواب شاقة. وتقول في هذا الخصوص: "طردوني من قلب النبض السوري. حملوني ورموني خارجاً بوقاحة.. ذنبي أنني كتبت، فمنعوني من دخول بلدي ...".

تندرج فصول الكتاب الستة، تحت عناوين عديدة، تنسحب في موضوعاتها على الثورة السورية. ولكن بعيداً عن اللغة الصحافية الجامدة، التي تلتزم بتقديم الخبر كحدث لا أكثر. فإن الكاتبة تجمع في مقالاتها تفصيلات، تفسح حيزاً للهامش في أن يتقدم على المتن.

ونلاحظ أنه تسترسل غدي في السرد بينا تنقل إلى القارئ مشاهداتها، ذلك من دون ان يخذلها وعيها للتاريخ والجغرافيا والتوزيع الديموغرافي للسكان، وكذا الولاءات: ما بين معارضين وموالين.

وتعرفنا في هذا الخضم، على أن أول ما يلفتها في تلك الرحلة الصحافية، خروج الناس من قوقعة الصمت، ومن ثم كسرهم تابو المحرمات" السورية"، والذي بقي راسخاً في قوة تأثيره وحضوره، عقوداً طويلة. وتوضح المؤلفة، أنه مع الشرارات الأولى للثورة في سوريا، صار بمقدور من هم في المعارضة، تحدي النظام وتجاوز حواجز الخوف والجرأة في التعبير عن رأيهم.

فتنقل شهادات العديد منهم:" سائق سيارة أجرة ينتظر إن تُلغى حالة الطوارئ المزمنة، ليصبح بالإمكان فتح المحال وإنشاء المشاريع التجارية للجميع".

وتجون ما يبوح به :" ربما سأطلب الحرية، لكنني أخاف من الحرية التي تجعلني مثل كابوس اللااستقرار في لبنان". وتدرج غدي قصصاً عن مجموعة نماذج أخرى، من بينها حكاية صحافي أصبح معارضا للنظام لأنه لا يستطيع ان يكتب ما تحبه الحكومة.

 وتضيف:"فنان مجنون ماركسي ثائر، يرفض التوريث من أصله، وجد نفسه معارضاً .. رجل أعمال يجد نفسه معارضا، نكاية برجل الأعمال نسيب الرئيس .. محمد سكرية كغيره من الثوار يطلب الحرية، وبأن يخفف الأمن قبضته على (أعمارنا وحياتنا)".

وتنقل لنا المؤلفة، رؤى وآراء لنخبة متعلمين ومثقفين سوريين، في شأن الثورة، إذ توضح أنه يرى أستاذ جامعي معارض، أن مطلبه ينحصر في الإفراج عن السجناء السياسيين، وإلغاء المحاكم العسكرية ومحاكم الأمن والمصادرات، ورفع حالة الطوارئ .

وتتحول في تدوينات معايشاته لتعرفنا على انه لا يكتفي أحد مزارعي دوما بالقول، انه ربما لا يعرف الحرية التي يريدها، ولكنه يعرف أنه ليس حرا. ويطلق جام غضبه على محافظ درعا الفاسد والمستبد، حسب رأيه، لتجرؤه الدائم على اذلال الناس.

وتتوسع الكاتبة في تحرير المقابلات والوقوف على آراء الناس، فتصور لنا مشهد الآراء عن قرب، مبينة أنه هناك من يرى مصلحة له في مسايرة النظام والدفاع عنه. وكذلك تحقد المعارضة على من هو في صفوف المعتدلين، مستنكرة عدم صراخه في وجه الظلم، وتتهمه بأنه من الشبيحة. ولا ينجو من اتهامه بالموالاة، فتنعته بالانتهازية والخيانة والعمالة.

وتعرض غدي، في سياق قراءاتها لمجريات الثورة الثورية، تصاعد العنف المذهبي والطائفي والعشائري، مدللة على أبعاد هذا التأجج، والوسائل التي يُعبّر بها عنه، مشيرة إلى التخوف من تفشي ّ هذه الظاهرة ونتائجها على وحدة الوطن والشعب.

وفي مقالة لها عن حماه، ضمن الكتاب، تستعيد المؤلفة، ذكريات المآسي الدموية لهذه المدينة، وتحكي عن القتلى الذين سقطوا فيها جراء عسف ودموية النظام الحاكم، وكذلك الجرحى والمعوقين والمفقودين، إلى جانب الخراب والدمار، وأيضاً تفاعل نتائجها المجزرة التي ارتكبت بحق أهلها في ثمانينيات القرن الماضي إلى غاية يومنا الحاضر.

ولا تغفل هنا، رصد التنوع السياسي الذي يحكم فئات من أهلها، لتخلص الى ان حماه تمثل "بشخصيتها الريفية السنية، نموذجاً لكل الانتفاضة السورية، التي تنطلق من عناوين ثابتة:الحرية، تشكيل الأحزاب السياسية، تداول السلطات، حرية الصحافة، قانون جديد للأحزاب، انتخابات حرة ونزيهة".

ولا يفوت غدي، أن تقدم شرحاً تفصيلياً عن تاريخ وتحركات، مختلف المدن السورية، لتدخل في أسرارها جميعاً، كما ولو أنها تنتمي إليها جميعاً، فتعرض لحاضر كل منها ولماضيها، مدرجة أبرز أحداثها التاريخية وأسماء رجالاتها، وسياسييها البارزين، وكذلك مفكريها ومثقفيها، علاوة على تفاصيل عن اقتصادها وأسواقها المالية والتجارية، وطبائع أهلها وعاداتهم .

وبعين المراقب والمتابع، تنقل المؤلفة مشاهد عن احتدام الشارع، وعن غليان شيبه وشبابه، واندفاعهم في الثورة إلى النهاية. وتنهي غدي فرنسيس، كتابها برواية حدثين، تختصر فيهما ملاحقة الأمن الجنائي لها وإلقاء القبض عليها، ومن ثم إيداعها في التوقيف الاحتياطي، قبل أن تطرد وتمنع من دخول سوريا لأسباب أمنية.

 

تحدي المخاوف

 

يمثل الكتاب مجموعة سرديات وتوصيفات ومعايشات لصحافية لبنانية شابة، ارتأت أن تتحدى مخاوفها، وكذا تحذيرات الأهل والأصحاب، فتدخل إلى سوريا في مهمة صحافية هدفها رصد حيثيات وجوانب الثورة السورية في بداياتها، وذلك بينما هي مدركة ما ينتظرها في بلد، يضيّق النظام فيه على الحريات الإعلامية، ويشرّع أبواب زنازينه ومعتقلاته للكتاب.

 

المؤلفة في سطور

 

غدي فرنسيس، كاتبة وصحافية لبنانية، لديها مجموعة من الكتابات والدراسات الاجتماعية والسياسية.

 

الكتاب: قلمي وألمي..

مئة يوم في سوريا

تأليف: غدي فرنسيس

الناشر: دار الساقي

بيروت

لندن 2012

الصفحات: 286 صفحة

القطع: المتوسط