عرفت المكتبات الأوروبية، سلسلة طويلة من الكتب التي بحث مؤلفوها في مسار توحيد القارة الأوروبية ومختلف آلياته. وتحت العنوان الكبير نفسه، يقدّم المؤرخ والفيلسوف الهولندي لوك فان ميدلار، كتابا تحت عنوان: "العبور إلى أوروبا".

ويحدد المؤلف هدفه من عمله، في شرح الفترة الجنينية، أو فترة تكوّن نمط نظام سياسي أوروبي موحّد، ذلك على اعتبار أنه حدث حاسم في تاريخ القارة. وفي الوقت نفسه، حدث حُقق بدرجة عالية من التباطؤ. ويقدّم لوك فان ميدلار تحليلاته، بعيدا عن أية نبوءات وقراءات استباقية لما يمكن أن يؤول إليه الاتحاد الأوروبي، في صورته الحالية. وهذا مع الإعلان المسبق، عن أنه ليس مع أو ضد أوروبا. ولكن هل يمكن لأوروبي أن يكون في غير هذين الموقعين؟

تقوم الأطروحة الأساسية التي يقدّمها المؤلف هنا، على التمييز بين ثلاثة دوائر: خارجية وداخلية ووسيطة. وهذه الدوائر تتناظر مع الأقسام الرئيسية الثلاثة التي يتألف منها الكتاب، وتحمل عناوين: سر الطاولة، أهواء الثروة، البحث عن الجمهور. وفي القسم الأخير، يتحدث المؤلف عن ثلاث إستراتيجيات، وهي: الاستراتيجية الألمانية أو فن تصنيع أمة، الإستراتيجية الرومانية أو من حليب الزبائن، الإستراتيجية اليونانية أو فن اجتذاب الجوقة.

ويشرح المؤلف أن الدوائر الثلاثة التي يميّز بينها في مسيرة البناء الأوروبي، تخص الطريقة التي نظمت فيها الدول الأوروبية العلاقات فيما بينها.ففي الدائرة الخارجية، تسود ما يسميه : الجوقة الأوروبية القديمة، أو "دائرة القارة". أما الدائرة الداخلية فيعني بها تحديدا :منظومة من المؤسسات، تحكمها الاتفاقية الأوروبية بالنسبة للدول الموقّعة عليها، والتي تتم الدلالة عليها عمليا في القاموس المستخدم عامة، بـ"اتفاقية بروكسيل"، حيث يوجد مقر الاتحاد الأوروبي. وأما المؤسسات الأساسية التي تحتوي عليها الدائرة الداخلية، فتتمثل في :المفوضية الأوروبي، البرلمان الأوروبي، المحكمة الأوروبية.

والدائرة الثالثة، الدائرة "الوسيطة"، هي التي تشكّلت تدريجيا. وأخذت صيغتها أثناء القمم الأوروبية، مثل تلك التي يعقدها المجلس الأوروبي، ويشارك فيها رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي ال27. وفي إطار هذه الدائرة تتجاوز العلاقات بين الدول قواعد الاتفاقية الأوروبية، ولكنها تجد نفسها محكومة بالعيش المشترك وسط العالم، إذ إنها تبدو بمثابة نادي من الدول.

ويبين المؤلف أن الشعوب الأوروبية، تجد تاريخيا، كشعوب، في الدائرة الخارجية، حيث تتواجه الدول فيما بينها. وكل منها يبحث عن تعزيز مصالحها الخاصة. وبهذا المعنى، يتم بذل الجهود ضمن إطار الدائرة الداخلية، من أجل تحويل ولاء الدول-الأمم الأوروبية الموقعة على الاتفاقية المشتركة، نحو الانتماء الأوروبي. ومثل هذا التوجه، يجد ترجمته في المساعي الخاصة بتثبيت مفهوم الهوية الأوروبية.

ولكن الواقع القائم يقول بوضوح ان الهويات الوطنية لمختلف دول أوروبا وأممها، لا تزال هي السائدة والفاعلة في مجمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقريبا. وهنا تبرز أهمية الدائرة الوسيطة، كما يشرح المؤلف. وذلك انه إذا كانت شعوب القارة لا تريد أن تصبح أوروبية، بالمعنى الكامل والدقيق للكلمة، فمن الواقعي والعملي أكثر، الدفع نحو تعزيز مشاعر الانتماء إلى "نادي أوروبي"، على الأقل. يؤكد المؤلف في تحليلاته، وجود مشكلة حقيقية في العلاقات بين السلطة الأوروبية التي تمثلها المؤسسات الأوروبية( مثل المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية)، وبالطريقة التي تمارسها الدول، من جهة. وبين ما تعتبره واجباتها حيال مواطنيها، من جهة اخرى.

ويوضح أن التصدّي لهذه المشكلة يستدعي أن تشرح الحكومات الوطنية لمواطنيها، حقيقة أن المسؤولية الأوروبية مشتركة، وأن البرلمانات الوطنية في مختلف الدول، تتحملها أيضا وعبرها الرأي العام في البلدان المعنية. وهو يشير، باختصار، إلى انه ينبغي وضع أوروبا في قلب الحياة اليومية لمواطني هذه البلدان.

ويقبل المؤلف، الفكرة القائلة ان أوروبا تمرّ في أزمة خطيرة، وأن الأوروبيين يعانون كثيرا منها. ولكن هذا ليس جديدا على تاريخ حافل بالأزمات ولحظات القطيعة. ولكنه يواجه هذابكثير من التفاؤل، كما يبدو في تأكيده على ان الاتحاد الأوروبي امتصّ الصدمة، وخرج منها متجددا بعمق، خاصة على ضوء ردود الأفعال التي أبداها الشريكان الأوروبيان الرئيسيان: ألمانيا وفرنسا، عندما قررا مواجهة الأزمة وبناء المستقبل المشترك.

ويتمثل الخط الناظم لتحليلات هذا الكتاب بتأكيد مؤلفه في التحليلات التي يقدمها، على أن المجموع الأوروبي الذي يجسده اليوم الاتحاد الأوروبي، يمتلك منذ بدايات قيام مؤسساته، قدرة استثنائية للانبعاث تحت ضغط الأحداث.

وباسم جدل القاعدة والحد، يرى المؤلف أن قواعد أوروبا ومؤسساتها، تجعل الدول الأوروبية أكثر وضوحا وحضارية بعد قرون من الحروب بينها.

 

 

 

الكتاب: العبور إلى أوروبا

تأليف: لوك فان ميدلار

الناشر: غاليمار باريس 2012

الصفحات: 479 صفحة

القطع: المتوسط

 

 

Le passage à lصEurope

Luuk Van Middelaar

Gallimard - Paris- 2012

479 .p