كُتب الكثير عن الجدران التي أطيح بها، وليس أقلّها جدار برلين في مطلع شهر نوفمبر من عام 1989. ولكن هناك أيضا، الكثير من الجدران التي بنيت لتكون جدران عزل. وأشهرها في السنوات الأخيرة، ذلك الجدار الذي شيدته إسرائيل، وسط فلسطين.
هذه الجدران هي التي يكرّس لها المؤلف الفرنسي المتخصص بالحرب العالمية الثانية، كتابه الأخير، الذي يحمل عنوان: "جدران"، ويرى من خلاله "تاريخ آخر للبشر"، مثلما جاء في العنوان الفرعي.
إن الجدران التي يقصدها المؤلف، ليست تلك التي تحدد المنازل وتحيط بالسجون، ولكن تلك ذات الدلالة السياسية. وهو يؤكد مباشرة، أن الجدران من هذه الطبيعة السياسية، موجودة منذ الأزمنة القديمة، ولكنها لم تكن كثيرة، مثلما هي في الوقت الحاضر، والتي كان أشهرها، حتى فترة قريبة، جدار برلين الذي جسّد الحرب الباردة، وكانت تطلق عليه تسمية" الجدار" مع "الـ" التعريف.
جدران كثيرة تحظى باهتمام مؤلف الكتاب، والتي تأخذ تسميات مختلفة، تدلّ عليها عناوين فصوله، مثل :"الجدران- الحدود"، "الجدران التي تمثل ستارا حديديا"، "الجدران ضد المهاجرين غير الشرعيين"، "جدران العزل" . وهكذا يجد القارئ، عددا من الصفحات، عن جدران عدة، منذ "سور الصين العظيم"، وحتى جدار العزل الذي أقامته إسرائيل، قبل سنوات.
يركز المؤلف في حديثه عن جدار برلين، على الصفة الإيديولوجية، وعلى الوظيفة الجيوسياسية لذلك الستار الحديدي، إذ كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، قد أعلن شجبه لمفهوم الستار الحديدي نفسه، منذ بداية الحديث عنه عام 1946، ولكن الامر الذي انتصر حيتنها هو تجسد تلك الفكرة في ارض الواقع، عندما بني الجدار ذاك، بإشراف جهاز الاستخبارات الألماني الشرقي ستازي- في عام 1961.
وإذا كان مؤلف الكتاب يرى في سقوط جدار برلين عام 1989، رمزا لازدهار الحرية ولبزوغ فجر أكثر انفتاحا، وإنه لم يعد سوى مجرد ذكرى سيئة، من الماضي القريب، فإنه لا يتردد في القول أن الجدران لم تختف من عالم اليوم، بعد 20 سنة من سقوطه. ونقرأ في الكتاب: "لا بد من ملاحظة أن العكس قد حصل، وبعيدا عن التوجه نحو الزوال، فإن جداران المنع قد تكاثرت، جدران على الحدود المتنازع عليها، وجدران ضد الهجرة السرية، وجدران ضد الإرهاب". وبناء على واقع اليوم، يرى المؤلف أن للجدران مستقبلها، كما يبدو.
لكن يبقى سور الصين العظيم، هو بمثابة جدار الجدران، كما يعبّر المؤلف-المؤرخ. وذلك الجدار الذي بلغت كلفة بنائه البشرية، ما يزيد عن مليون شخص. وكان يترجم عند تصميمه، وظيفة أن يمثل حدودا يبلغ طولها 7500 كيلومتر، بحيث يكون حاجزا دفاعيا أمام الغزاة. وتلك الوظيفة الدفاعية، تجد صداها فيما عرف بخط ماجينو، الذي جرى بناؤه في فترة ما بين الحربين العالميتين، بقصد الوقوف في وجه أي غزو ألماني محتمل، على بلدان الجدار. وذلك الخط- الجدار، انهار هو الآخر.
ويشرح المؤلف أنه منذ القرن التاسع عشر، ظهرت ممارسة جديدة، للدلالة على السيطرة الرمزية، على منطقة ما، عبر إحاطتها بالأسلاك الشائكة، التي لعبت دورا هاما في الولايات المتحدة الأميركية. وذلك خاصة من أجل حصر الهنود، أبناء البلاد الأصليين، في حيّز مكاني محدود، أشبه بحظائر الحيوانات. ومن الوظائف التي يتحدث عنها المؤلف، بالنسبة للجدران، هي أنها خدمت أحيانا، فكرة ان تكون بمثابة أدوات للحجر الصحي. وذلك على غرار تلك الجدران التي بنيت في جنوب فرنسا، خلال سنوات العشرينيات من القرن الثامن عشر، لـمنع انتشار مرض الطاعون. لكن مفهوم الحجر، الذي جرى تطبيقه في تلك الحقبة، تطوّر ليصبح ذا طبيعة عنصرية، فغدت الجدران تحيط بمجموعات بشرية، تنتمي إلى عرق معين أو انتماء معيّن.
وبعد حديث المؤلف عن جدران من هذا النوع أقامها هتلر وأقيمت في فلسطين وكوريا وقبرص وبتسوانا في إفريقيا وجدران في مواجهة الهجرة ومنع المهاجرين من التسلل إلى البلدان المجاورة، يشير إلى ميل يسود اليوم أكثر فأكثر ويكمن في بناء نوع من "الجزر الأمنية". هكذا يوجد في الولايات المتحدة اليوم ما يزيد عن 8 ملايين نسمة يعيشون في 30000 من "الأحياء المغلقة أو مناطق سكنية تحيط بدرجة مهمة من الثراء يريدون أن يبقى "عالمهم المغلق" محصورا بالتعامل فيما بينهم بعيدا عن الآخرين، وربما المحيطين بهم جغرافيا. هؤلاء "الآخرون" يتم النظر إليهم كمصادر للتهديد، مصادر "حقيقية" أو "مفترضة".
في المحصلة ينتهي المؤلف- المؤرخ إلى القول: "في النهاية، تقول هذه الجدران الكثير ولكنها تفعل القليل". إنها تعبّر خاصة عن خوف أولئك الذين يبنونها.
الكتاب: جدران.. تاريخ آخر للبشر
تأليف: كلود كيتيل
الناشر: بيران - باريس
- 2012
الصفحات: 324 صفحة
القطع : المتوسط
Murs
Claude Quetel
Perrin - Paris- 2012
324 .p
