اشتهر الفيزيائي الفرنسي نيكولا ويتكوفسكي باهتمامه في كل ما يتعلق بالعلوم، وبعد أن ساهم في إنجاز "قاموسها" الحالي، كما جاء في عنوان أحد كتبه، يولي اهتمامه في كتابه الأخير: "نظرة متأنية للألعاب والدمى"، للبحث في ما يعتبره، المساهمة الكبرى التي قدّمتها ألعاب الطفولة في تحفيز التفكير العلمي، ولذلك يكرّس هذا العمل "في مديح حدس الطفولة".
يطرح المؤلف في مقدمة الكتاب، عددا من الأسئلة، مثل: هل ألعاب الطفولة مكرّسة بالتحديد للتسلية وليس لها أية فائدة؟ هل هناك دلالة علمية لحدس الأطفال ولاهتماماتهم؟ ثم يشرح المؤلف، بعدها، وعلى مدى الفصول العشرة التي يتألف منها هذا العمل، كيف أن الحدس الطفولي، يقترب، إلى حد كبير، من الحدس العلمي، وأن طفولة العلماء الكبار من فيزيائيين وغيرهم، كانت بمثابة المختبر الأول لمسيرتهم العلمية اللاحقة.
إن القاعدة العامة التي يؤكّد عليها المؤلف، تتمثل في قوله ان غالبية الأطفال، لا يرون في ألعابهم سوى أدوات للتسلية. وطبعا الغالبية وليس جميع الأطفال، ذلك أن البعض منهم، يرى في ألعابه مصدرا مهما للإلهام، قد يكون فيما بعد، وراء صياغة أهم النظريات الفيزيائية.
وتجري الإشارة الى أن أحد الأسرار الكبرى للفيزياء، تمّ الكشف عنه خلال القرن السابع عشر، عندما فهم إسحاق نيوتن طبيعة الضوء، بواسطة موشور من الزجاج، لم يكن في عصره سوى مجرد لعبة للأطفال.
وفي القرن التاسع عشر، وجد جيمس ماكسويل في معرفته الدقيقة بـ"الدوّامة"، المعروفة باسم "البلبل" في القاموس الطفولي الشائع، وجد ما سمح له بتوحيد الكهرباء والمغناطيس. وأما آنشتاين فكان قد وجد في طفولته الأسئلة الأولى حول المكان (الحيّز المكاني)، والزمان من خلال (قصور الورق).
وينقل المؤلف عن آنشتاين، قوله: "اللعب هو الصيغة الأسمى للبحث". وكذا عن بودلير: "لعب الأطفال، المقاربة الأولى للفن". كما قال فيكتور هوغو في عمله الذي يحمل عنوان "أشياء مرئية"، ما مفاده: "فلتتبارك السماء التي أعطت لكل إنسان لعبته، الدمى للطفل، والطفل للمرأة، والرجل للشيطان". وهكذا، طبقا لما يوضح المؤلف، الألعاب تبدو في هذا المنظور، بمثابة موضوع هو في غاية الجدية.
تتمثل إحدى الأفكار الأساسية التي يسوقها نيكولا ويتكوفسكي، في التحليلات التي يقدمها، دعما لأطروحته في القول ان مشاعر الانجذاب، نحو ألعاب الطفولة الأكثر شهرة وشيوعا، مثل: "فقاعات الصابون، الدوّامات البلابل- الأبر الممغنطة، الكلاّت «الدحاحل»، قصور الورق المقوّى، زحلقة الحصى على سطوح المستنقعات، طواحين الهواء. جميعها كانت، أي مشاعر الانجذاب، تقف وراء التساؤلات العلمية الأساسية، وبالتالي وراء الاكتشافات الكبرى.
ويرى المؤلف أن أكثر ما يؤسف له، هو كون غالبية البشر يبتعدون عن تسليات الطفولة (الخلاّقة)، عندما يخرجون من فترتها الجميلة، على خلفية أحكام اجتماعية، مفادها أن تلك التسليات لا تليق بالرجال البالغين. وبالمقابل، تسعى التربية السائدة، والقاموس الشائع وجملة الأحكام المسبقة، إلى إخماد تلك الجمرة الصغيرة التي تتمكّن شعلتها من الاستمرار في بعض الحالات النادرة. هكذا، وتحت حجة الظهور بمظهر الجديّة والوقار، يتم التخلي، كما يرى المؤلف، عن المسائل المهمة، وعن الشحنة التأملية التي تحتوي عليها ألعاب الأطفال.
وعبر التنقيب في فراديس الطفولة وألعابها، وبدعم سلسلة طويلة من الأمثلة التي ليس أقلها شأنا، آنشتاين والعديد غيره من العلماء الكبار، يجد المؤلف حليفا كبيرا له، في رؤيته، هو من أهل الفن: الرسام جان سيميون شاردان، والذي قدّم في لوحاته، قسما كبيرا من ألعاب الطفولة، من تصور الورق وفقاعات الصابون وغيرها. ورسوم هذا الفنان، تجد مكانها في صفحات الكتاب، للتدليل على عمق نظرات الأطفال. ويصل المؤلف إلى القول في هذا السياق، انه عندما يلعب طفل لا يكتفي بالتسلية، ولكنه يتساءل حول أسرار الطبيعة.
ونقرأ أيضا، أن الطفل لا يهتم إلا بما يتحدّى الزمن والحركة والصدفة. ولا يفهم مثلا، سبب عدم دوران البلبل إلى ما لا نهاية، وايضا لماذا تسقط الحصى التي تلقى في الفضاء على الأرض؟ ولماذا لا يمكن بناء قصر من ورق بارتفاع يزيد على الـ 14 طابقا؟ هذا مع أن مبادئ الفيزياء "المطلقة"، تفترض إمكانية بناء عدد لا محدود من الطوابق.
كما انه اذا كانت قصور الورق تنهار في لحظة ما، فهذا يعني أن خللا جرى ارتكابه في مكان ما. وهكذا يحاكم الشخص البالغ هذا الأمر، منطقيا، ولكن الطفل يجهد كي تستمر المعجزة إلى الحدود القصوى للمعقولية. وهذا هو بالتحديد منطق استخراج القوانين الفيزيائية. ثم إن ليون فوكو اخترع "المدوار" لتحديد الاتجاه، وكذا "البندول" انطلاقا من الدوّامة البلبل، وبالاعتماد عليها، استطاع غاسبار كاريوليس، حساب دوران الأعاصير.
واما "فقاعات الصابون"، فكانت ألهمت العديد من العلماء، لتحصيل الكثير من المعارف. وقد ساهمت في إيجاد حل مشكلة المسافر للتجارة، أي إيجاد أقصر الطرق التي تربط بين المدن.
الكتاب: نظرة متأنية للألعاب والدمى
تأليف: نيكولا فيتكوفسكي
الناشر: لامارتينيير - باريس- 2011
الصفحات: 176 صفحة
القطع: المتوسط
Petite métaphysique des jouets
Nicolas Witkowski
La Martinière - Paris- 2011
176 .p
