في عام 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وبلغ عدد المستوطنين فيها مليون مستوطن مقابل 9 ملايين من سكان البلاد الأصليين. والكاتب والمؤرخ البريطاني مارتان ايفانس الذي قدّم عدة أعمال عن تاريخ الجزائر الحديث، يكرّس كتابه الأخير لـ"الجزائر حرب فرنسا غير المعلنة"، كما يقول عنوانه.
ويحدد المؤلف ثلاثة مشارب أساسية لا بد منها لتحليل الأسباب الكامنة وراء حرب التحرير الجزائرية. والمشرب الأول يكمن، برأيه، في ذلك الحقد العميق والدفين، الذي عرفه أبناء الجزائر، بسبب العنف الدموي المفرط للحملة العسكرية الفرنسية، وللمعاملة السيئة التي تلت ذلك من قبل المستعمرين، وبهذا المعنى يتحدث ايفانس عما يسميه "الحقد الطويل الأمد".
والمشرب الثاني الذي شكّل السبب العميق لانتفاضة الجزائريين، يحدده المؤلف ببروز حركة وطنية حديثة ومصممة، بعد الحرب العالمية الثانية. فهذه الحركة هي التي قادت نضال الجزائريين وصولا إلى بداية حرب التحرير عام 1954. وتلك الحرب استمرت حتى عام 1962 مع إعلان استقلال الجزائر. والتي كانت حربا مدمّرة للبنى الأساسية للبلاد.
وكانت أكلافها البشرية وقوع مئات الآلاف من الضحايا. ويتم التأكيد في هذا السياق، على أن ضراوة العنف التي شهدتها تلك الحرب من قبل الطرفين، كان لها أثر نفسي خطير على البلاد المستقلة حديثا، إذ كانت النخبة العسكرية لجبهة التحرير الجزائرية، هي التي وصلت إلى السلطة، ولا تزال إلى هذه الدرجة أو تلك.
اما المشرب الثالث، فيتم تحديده بوجود إرادة مصممة لدى السلطة الفرنسية الاستعمارية، للوصول إلى طريق ثالث، عبر مصالحة بين الثوار الجزائريين والمستوطنين الفرنسيين عند بداية ثورة التحرير الجزائرية. وهذه النقطة الأخيرة تقدم أطروحة فريدة، مفادها أن الجبهة الجمهورية، التي تولّت الحكم في فرنسا، ما بين شهر يناير عام 1957 وشهر مايو 1957، بزعامة غي موليه، الاشتراكي، أرادت تقديم إجابة فرنسية على الانتفاضة التحررية الجزائرية.
وذلك على أساس الأسطورة التحضيرية- التمدينية لفرنسا، من جهة. كما يجري التأكيد من جهة ثانية، على أن الحركة الوطنية الجزائرية "الإقطاعية والمتزمتة"، ليست سوى ممر تعبر منها الشيوعية إلى الجزائر. ومثل هذه الأطروحة، شكلت مبررا لزيادة حدة الحرب عبر إرسال المجنّدين الجدد، في ربيع عام 1956 إلى الجزائر، مع دعوة 400000 من الاحتياط، ومنح سلطات استثنائية للجيش، من أجل إنهاء التمرّد والرفض الحاسم للمفاوضات مع جبهة التحرير الجزائرية.
وكان لا بد من انتظار المؤتمر الصحافي الذي عقده الجنرال شارل ديغول، يوم 11 ابريل عام 1961، كي تقبل الجمهورية الفرنسية الخامسة التي كان الجنرال قد أسسها عام 1958، واقع وحقيقة أن الجزائر ليست فرنسية. وما يؤكده المؤلف في هذا السياق، هو أن المواجهة على صعيد القيم، بين اليسار الفرنسي الاشتراكي والحركة الوطنية الجزائرية، تركت آثارها على المدى الطويل.
إن المشارب الثلاثة التي يرى المؤلف أنها كانت في صميم قيام الثورة الجزائرية التحررية، تتناظر مع الأقسام الثلاثة التي يتألف منها الكتاب. ويعنى القسم الأول بما يسميه المؤلف: "الأصول، 1830-1945"، ابتداء من الغزو، ومن ثم حقبة الحقد الطويلة، فقيام الحركة الوطنية الجزائرية.
ويحمل القسم الثاني عنوان: "الحرب غير المعلنة 1945-1959"، ويجري التأكيد أثناء ذلك، على أن: "الجزائر فرنسية" و"غي موليه والحرب" و"معركة الجزائر ونتائجها"، وأخيرا "العنف المعقّد". والقسم الثالث والأخير مكرّس لسنوات الثورة والاستقلال 1959-1962.
ومن ما يؤكده المؤلف هو أن الاستعمار الفرنسي للجزائر كان مختلفا عن التجارب الاستعمارية الكلاسيكية في القارة الإفريقية. وذلك لا يعود فقط إلى ضراوة حرب الاستقلال والعدد الهائل من الضحايا الذي نجم عنها. ولكن أيضا، وربما خاصة، بسبب الآثار العميقة التي تركتها على المستعمرين، كما هو على الذين وقع عليهم الاستعمار. وتلك الآثار لا تزال مستمرّة حتى اليوم، كما يؤكد مؤلف الكتاب.
وهذا يبدو من خلال النقاش الذي لم ينته حول هذا الموضوع. ومن مؤشراته أيضا، إشارة المؤلف إلى أن فرنسا ظلّت ترى في حرب التحرير الجزائرية، مجرّد عملية بوليسية، ولم تعترف بها، أنها كانت حربا كبيرة وأقسى الحروب التي عرفتها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك حتى عام 1999، عندما اعترفت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، بأنه كانت هناك حرب في الجزائر، أي بعد 37 عاما على استقلالها.
ويشرح المؤلف أنه من الصعب جدا، تصوّر كيف انه كان بمقدور فرنسا أن تحتفظ بـ"الجزائر فرنسية". فمنذ اندلاع ثورة التحرير لم يكن لدى الساسة الفرنسيين واقعيا، من غي موليه وحتى الجنرال شارل ديغول، أي أمل بإمكانية إقناع المسلمين الجزائريين باستمرار الاستعمار.
وكذلك كان من الصعب عليهم الحصول على ثقة المستوطنين الأوروبيين المعروفين ب:"أصحاب الأقدام السوداء"، والذين خامرهم الإحساس بخيانة الساسة الفرنسيين لهم، مما دفعهم إلى تأييد التمرّد الذي قام به جنود منظمة الجيش السرّي، ضد الجنرال ديغول.
وفي المحصّلة يؤكد المؤلف، على أن الجزائر كانت مختلفة تماما عن المستعمرات الفرنسية الاخرى، ذلك أن إدارتها من قبل باريس، جرت وكأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا ولا تختلف نظريا، عن منطقتي النورماندي وبروتانيا أو غيرهما من المناطق الفرنسية.
ورغم أن الحرب استمرت شرسة ما بين 1954 و1962، فإنها كانت حربا غير معلنة، بمعنى أنه لم تكن هناك بداية رسمية لها. ولكن ذلك لم يمنع واقع كونها ولّدت توترات هائلة في فرنسا، أدت إلى إسقاط أربع حكومات، وأنهت الجمهورية الرابعة عام 1958. وأيضا ألصقت بالجيش الفرنسي تهمة اللجوء إلى التعذيب وخرق حقوق الإنسان. ونجد المؤلف، يعود إلى هذا كله، بالتفصيل.
الكتاب: الجزائر حرب فرنسا غير المعلنة
تأليف: مارتن ايفانس
الناشر: جامعة اوكسفورد 2011
الصفحات: 496 صفحة
القطع: المتوسط
Algeria : France undeclared war
Martin Evans
Oxford University Press 2011
496.p
