أمضت الكاتبة البريطانية الكسندرا فيولر، شطرا كبيرا من حياتها في القارّة الإفريقية التي وصلتها بعد ثلاث سنوات من ولادتها، مع والدها ووالدتها. وبعد أن قدّمت عملا نال شهرة كبيرة، تحت عنوان "دموع الحجر"، روت فيه سنوات طفولتها في زمبابوي حاليا، ها هي تعود في كتابها الأخير، إلى الحديث عن إفريقيا التي أحبتها. وتتعرّض لها عبر الحديث عن سيرة حياة أمّها وأسرتها، والتي كما تقول، لا يمكن نسيانها،. وعنوان الكتاب الجديد هو: " تحت شجرة النسيان".
تشكل أم المؤلفة، حجر الزاوية في هذا البحث، وذلك مثلما كانت تشكل مركز أسرتها. والصفة الأساسية التي تؤكد الابنة عليها، في شخصية والدتها، هي الشجاعة. وتشير إلى أنها كانت تريد دعوتها دائما، باسم "نيكولا فيولر من إفريقيا الوسطى".
إنها من مواليد سكوتلندة من أسرة ريفية جبلية، ولكنها ترعرعت في كينيا، وسط أشعة الشمس الاستوائية الباهرة. وتصفها المؤلفة ـ الابنة، بأنها كانت تحمل في صدرها، القيم الإفريقية الأصلية، وعلى رأسها : الولاء والوفاء لرابطة الدم، التعلّق الشديد بالأرض، القناعة التامّة بأن وجود الحيوانات يصبّ في مصلحة الإنسان.
في البداية يتعرّف القارئ على نيكولا- الأم، عندما كانت طفلة مشاغبة، في كينيا.ثمّ يتعرّف عليها شابة تمضي وقتها مع تيم فيولر، الذي أحبته، فتزوجا ليشكلا معا، أسرة واحدة عرفت السعادة لسنوات طويلة. ولكن تاريخ الأسرة، يأتي في سياق فترة كان فيها نجم الإمبراطورية البريطانية، بصدد الأفول والتلاشي.
وتلك الإمبراطورية التي كانت أثارت لديهما سابقا، الكثير من الحماس. وبعد سنوات السعادة، حلّت فترة تكوّنت فيها المآسي والاضطرابات، إلى درجة أن الأسرة وجدت نفسها أمام عالم تكاد لا تستطيع التعرّف عليه.
انتقل تيم ونيكولا في ربوع القارّة الإفريقية، بحثا عن مواقع إقامة جديدة يمكنهما فيها، أن يؤسسا للعيش بسلام. وهكذا انتقلا من كينيا إلى روديسيا، ثم زامبيا، وذلك مع تمضية بعض الإجازات القصيرة في انجلترا. وعرفت المنطقة، اعتبارا من بداية عقد الثمانينات في القرن الماضي، اضطرابات اجتماعية وحروبا أهلية، حيث عرفت الأسرة حالة من البؤس، لاحقتها في الأماكن التي حلّت بها، بينما كانت تخوض معركة الحياة من أجل الحفاظ على طفليها، وعلى أرضها، وعلى سلامة الصحة النفسية والعقلية لأفرادها.
إن الموضوع الجوهري لهذا الكتاب، هو إذن تدوين التاريخ الإفريقي لأسرة المؤلفة. وذلك من زاوية، أن ذلك التاريخ يحتوي على روابط العلاقة بين المستوطنين الانجليز والأرض الإفريقية التي استأثروا بها، وأبعدوا عنها بذلك، الأفارقة الأصليين.
ولكنه يحتوي أيضا على ملامح نهايات الظاهرة الاستعمارية والتخلي بالتالي عن كل شيء في إفريقيا، بالنسبة للبيض الذين استوطنوها، أي الأرض والهوية ومشاريع الحياة كلها. السؤال الكبير الذي كان يتردد دائما على ذهن الأم، تلخصه المؤلفة بما معناه: "من أنت؟" .
وهذا على الرغم، من أن مثل هذه الأسئلة، ليست من نوع الأسئلة التي يمكن طرحها بسهولة على النفس. وما يتم تأكيده هو أن الأم لم تكن ترى نفسها أبدا، بمثابة "سكوتلندية"، رغم ولادتها في سكوتلندة، وذلك أنه كان من العسير عليها العيش فيها، حيث لا يحق للإنسان أن يمتلك بندقية، بينما كانت البندقية، أحد معطيات الهوية بالنسبة لمن كان يعيش في إفريقيا، بصفته غريبا عن أرضها وعن أبنائها.
وعليه الدفاع عن نفسه. ومن أجل معرفة الكثير من أسرار حياة أمها، لجأت المؤلفة إلى القيام بسلسلة من اللقاءات، وجمع الشهادات، على مدى عقد كامل في سكوتلندة، والتي تعود إليها أصول الأم، وفي كينيا، حيث ترعرعت، وفي روديسيا السابقة زمبابوي اليوم- حيث توجد الأمكنة الحقيقية التي ستغدو أمكنة "شجرة النسيان".
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه من بين الذين جمعت شهاداتهم: أمها وأبيها. ومما تعلّقه على شهادة أمها، قولها: "عند سماعي لما قالته، أدركت عندها أنها عاشت حياة مدهشة، رومانسية. حياة على غرار ما كتبته كارين بليكسن في روايتها التي تحمل عنوان: (المزرعة الإفريقية)". كما تجري الإشارة إلى أن والدة المؤلفة كانت شديدة الإعجاب بالروائية كارين بليكسن.
والإطار الذي ترسمه لمسار أسرتها، هي أن أمّها كانت شغوفة بأرضها، الإفريقية، وان أباها كان شغوفا بأمّها. وهي تحاول، في الوقت نفسه، المحافظة على الحياد التام، بعيدا عن العواطف، وذلك كأنها ليست ابنتها.
وتؤكّد أن أسرتها استفادت كثيرا من الامتيازات التي كانت تتمتع بها "الأقلية البيضاء"، الاستعمارية، في إفريقيا السوداء، وذلك مع ما يعني الامر من عنف، والتماشي مع قناعة استعمارية كانت أسرتها بمثابة تعبير صارخ عنها، برأي المؤلف، ومفادها فكرة أميركية: "5 بالمائة من سكان العالم، تريد امتلاك سلطة القرار بمصير بقية الآخرين".
ويمثل الكتاب، في أحد أوجهه الأساسية، نوعا من البحث في الهوية المفقودة، لأولئك الذين عاشوا غالبية حياتهم، كـ"مستعمرين" في بلاد الآخرين. ومن ما تقوله المؤلفة: "أنا موجودة حيث قصص حياتي. وأنا أتيت من حيث أتت، وهي موجودة في كل مكان". ووصولا إلى القول: "منزلي هو كتابي". أما موطن أمّ المؤلفة الحقيقي، فتجده الابنة في :"تلك المزارع الإفريقية"، التي انتقلت بينها.
الكتاب: ساعات تحت شجرة النسيان
تأليف: الكسندرا فيولر
الناشر: سيمون وشستر نيويورك 2011
الصفحات: 256 صفحة
القطع: المتوسط
Cocktail hour under the tree of forgetfulness
Nan Elizabeth Woodruff
Simon and Schuster- New York- 2011
256 . p
