تشير الإحصاءات الفرنسية الصادرة عن مراكز أبحاث متخصصة، أن هناك 1,2 مليون فرنسي يمتلكون معدّل ذكاء هو أعلى بكثير، من المعدّل المتوسط الذي يشترك فيه الفرنسيون الأصحّاء الآخرون. وموضوع الذكاء الحاد هو الذي تعالجه المحللة النفسانية الفرنسية، ذات الشهرة الإعلامية الكبيرة، مونيك دو كيرماديك، في كتابها: "الإنسان البالغ ذو الذكاء الحاد".
وتحدد المؤلفة القول في تقديم كتابها: "عندما يتم ذكر أسماء ليوناردو دو فنشي أو انشتاين أو موزارت، فإن الأمر لا يعني بالتحديد الحديث عن أشخاص يمتلكون ذكاءً حاداً. ذلك أن أمثال هؤلاء البشر لا يوجد منهم سوى إنسان واحد كل قرن من الزمن". وأما الذين تقصدهم المؤلفة في كتابها، فهم الذي تصنّفهم في خانة ذوي الذكاء الحاد، الذين يبلغون نسبة 2 بالمائة من الفرنسيين، مثلاً.
ويتم التأكيد في هذا السياق، على أن القليل جداً من هؤلاء "الأذكياء جداً"، يدركون أنهم يمتلكون مثل هذه الخصوصية. ثم إن أولئك الذين يدركون ذلك، يحافظون على عدم إظهاره. ونقرأ في الكتاب: "من النادر أن يتم تقبّل ذوي الذكاء الحاد بحفاوة كبيرة. إن تعبير الذكي جداً، يحمل دائماً في مضمونه، سمة العبقرية، ومثل هذه الصفة تثير قدراً كبيراً من الحذر (الرفض)".
وتشير المؤلفة إلى أن مجموعة من الأذكياء هؤلاء، تعاني التهميش، بفعل الإحساس بأنها "ليست مثل غيرها". وبالتالي لا يجد أفرادها طريقهم. وكذلك يعتريهم ألم حقيقي من الطريق المسدودة التي دفعهم إليها، تفرّدهم بالذكاء.
ويتم تفسير الرفض الذي يواجههم عادة، بسبب تفوقهم في مشرب واحد فيصبحون، بمعنى ما، مثل الأسرى لديه. وتظهر أشكال النبوغ عامة، في مجالات المنطق والحساب والكفاءة على التحليل، وغيرها الكثير. ولكن إذا كان الآخرون يقابلون ذكاءهم الحاد، عند طفولتهم، بالتصفيق، وبالتأكيد على المستقبل الواعد الذي ينتظرهم، فمع ذلك، قلّ ما يستطيعون تحقيق ذلك عند بلوغهم.
وتؤكد مونيك دو كيرماديك، على أنها قابلت أكثر من 1000 شخص، من الرجال والنساء، من الذين تصفهم بالاستثنائيين، من حيث درجة الذكاء الذي يتمتعون به. ووجدت أنهم يشتركون جميعاً، ببعض نقاط القوة ونقاط الضعف، وكذلك تفرّد وجهات النظر والمقاربات والرؤى. ويتقاسمون بالمقابل، المشكلات نفسها، عندما يريدون تحليل أسباب آلامهم، وإيجاد الحلول للمصاعب التي يواجهونها في الحب والصداقة، وفي إطار الأسرة، وفي عالم العمل.
والأغلبية الساحقة من المعنيين بالدراسة، كانوا قد عرفوا صعوبات في طفولتهم، وكانت لديهم نظرات خاصة إلى العالم، مع تحلّيهم بقدر كبير من التعقيد، في تعاملهم مع الآخرين. وهذه الأمور كلها، تحوّلت عند وصولهم إلى سن البلوغ، إلى نقص في الثقة بالنفس.
وجميع الذين يتمتعون بذكاء حاد، بالقياس إلى المعدّل العام ما عدا استثناءات قليلة - يعيشون حالة من الحرمان، بسبب عدم إشباع تطلعاتهم الأساسية، وأيضاً بفعل الرقابة التي يمارسها المحيطون بهم، والذين يرون انهم مختلفون عنهم، وبالتالي يثيرون لديهم الخشية.
إن مؤلفة هذا الكتاب تجيب في فصل كامل من فصول الكتاب الستة، على سؤال مفاده: كيف يمكن التعرّف على إنسان بالغ حاد الذكاء؟ وهناك فصل آخر تكرسه للإجابة على سؤال ثان هو: "من أنا حقيقة؟".
وتشرح أن حدة الذكاء تمثل ثروة حقيقية من أجل النجاح في الحياة. ولكن هذا لا يمنع، برأيها، واقع أن أغلبية أولئك الذين يمتلكون هذه الصفة، هم من التعساء، وأن قسماً كبيراً منهم، يواجه فشلًا اجتماعياً كبيراً، والأمر نفسه على الصعيدين، المهني والعاطفي.
ويحتاج صاحب الذكاء الحاد، إلى الاعتراف بموهبته وقدراته من قبل الآخرين. ولكنه لا يدرك ذلك باستمرار، وهو ما يجعله هشّاً في علاقاته مع الآخرين، الذين لا يستطيع أن يراهم مختلفين عنه. ومن هنا، يتم طرح السؤال التالي: هل الذكاء الحاد حظ للنجاح أم إعاقة؟ ولا تتردد مؤلفة الكتاب في التأكيد على حقيقة أنه حظ. وهنا تنقل عن الفيلسوف ايمانويل كانط، قوله: "الكمال الداخلي للإنسان، يكمن في قدرته على استخدام جميع إمكاناته وقدراته، من أجل وضعها في خدمة إرادته الحرة".
ولا تكتفي مؤلفة الكتاب بالتشخيص والتحليل، ولكنها تشرح في الصفحات الأخيرة، ما تسميه "بعض المفاتيح" الضرورية كي يتعلم أصحاب الذكاء الحاد، كيف يحترمون أنفسهم ويبنونها، ومن ثم يقيمون علاقات اجتماعية وعلاقات عاطفية صحيحة، وخاصة: كيف يقيمون علاقات سليمة ووديّة مع المحيطين بهم، والذين يشكّلون "حلفاءهم الأساسيين؟".
وفي المحصلة، تحاول المؤلفة - المعالجة النفسانية، التي قامت بعلاج المئات من ذوي الذكاء الحاد، أن تساعد المعنيين كي يتغلبوا على أشكال السلوك التي تقودهم إلى فقدان التأقلم مع محيطهم، وأحياناً كثيرة إلى الفشل.
والمهم هو الوصول إلى التصرّف ببساطة، عندما يعاني البشر من التعقيد. وذلك من أجل تسهيل الاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه، وإلا فإن التهميش يترصّد بهم.
الكتاب: الإنسان البالغ ذو الذكاء الحاد
تأليف: مونيك دوكيرماديك
الناشر: البان ميشيل - باريس- 2012
الصفحات: 192 صفحة
القطع: المتوسط
Ladulte surdoué
Monique De Kermadec
Albin Michel - Paris- 2012
192 .p
