كرّس الكاتب والباحث الفرنسي نيكولا غريمالدي، الكثير من جهده ووقته وأعماله، للبحث في كيفية عيش البشر في داخلهم، للأحداث التي تجري حولهم في العالم الخارجي.
ويشير المؤلف المتقدم في السن، الى أنه عاصر الأحداث المشهورة في فرنسا، تحت تسمية "ثورة الطلبة"، للدلالة على الاضطرابات الطلاّبية والعمالية في شهر مايو، من عام 1968. ويرى بها البعض (منعطفا) حقيقيا في الحياة الاجتماعية الفرنسية، بل وانه كان لها آثارها العميقة على المستوى العالمي كله. وهو يعود إلى تلك الأحداث ليسأل:" هل كانت أحداث مايو- 1968 قطيعة حقيقية؟
ونجده يقدم إجابته على مثل هذا السؤال، في كتابه الأخير، الذي يحمل عنوان: "تعاظم الفراغ". وهو يدرج هذه الإجابة وكأنها معركة يخوضها ويستخدم فيها كل الأدوات المتاحة لديه، في مجالات الفلسفة والفن والأدب، ليبيّن مدى التطور الذي عرفته الحضارة والمجتمعات الغربية، عبر الحقب من خلال مناهج التربية وغيرها من مشارب العلوم والمعارف.
نقطة الانطلاق الأساسية التي يتبنّاها المؤلف هي بالتحديد الإنسان ومصيره، من خلال الفلسفة والفن والأدب خاصة. وهو يركز اهتمامه على الإنسان المعاصر، أي المعاصر له ولتجربته الحياتية والمعرفية. ويلاحظ سمة أساسية لدى معاصريه يحددها بوجود نوع من الصعوبة المتزايدة التي يعانون منها، في مواجهة الزمن الذي يعيشون فيه. وهو يبحث بالتالي، عن المصادر الأساسية لمثل هذه الصعوبة.
وأما السمات الأساسية لهذا الزمن فيحددها المؤلف، أو ما يسميه العلم الجديد، يحددها في ضياع القيم ووجود نوع من العدمية واللامبالاة حيال كل شيء، وايضا الاضمحلال الكبير في الإبداع الفني الذي لم يعد إبداعا،وغياب المواضيع الجديّة عن الفن. وبشكل عام في زيادة في الإفقار الفكري والمعرفي.
ولا يتردد المؤلف في الإشارة، الى أنه يشعر نفسه غريبا عن المجتمع الذي يعيش فيه، في الحقبة الراهنة. ولقد كان معاصرا لجون بول سارتر واندريه جيد والبير كامو، وغيرهم من جيل فلاسفة ومفكري فرنسا الذين سادوا الساحة الفكرية العالمية، في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكنه لا يجد اليوم نفسه أبدا، فيما يحيط به. ويبين أن جيل الكبار لم يرحل وحده، ولكن رحلت معه تلك القيم التي كان جيل المؤلف، كما يقول، يرى فيها إنسانية الإنسان، وليس أقلّها احترام اللغة والتريّث في إصدار الأحكام.
وأما اليوم، فإن مطلب الحقيقة اضمحلّ وغاب، كي يحل محله مفهوم المنفعة وغيرها من قيم السوق. وما يؤكده نيكولا غريمالدي، أنه كما توجد زلازل أرضية، توجد أيضا زلازل ثقافية.
ويحدد المؤلف أحد مظاهر التقهقر الثقافي في الحضارة الغربية عامة، بانحسار دور الفلسفة، بحيث انها غدت قانونية في البرامج التعليمية. وهذا في الوقت الذي تحمل فيه بجوهرها، هموم البحث عن الحقيقة. وكذا تسهم في استيقاظ العقول التي عليها أن تحاول تقديم إجابات على الأسئلة التي تطرحها الحقبة. ويوضح أن العدوى الفكرية مطلوبة، مثلما هو حال الانفعالات والمشاعر. وذلك أن ما لا نشعر فيه لا يمكننا أن نفهمه. ومن ثم، فإن الجمال يجعلنا نحس بعمق الفكر.
وكذلك بان الحقيقة كانت وستبقى رائعة. ولكن البحث عن الحقيقة يتسم دائما بكونه بحثا فرديا، ويقوم فيه من يعتمل بداخلهم مثل هذا الهم. الا ان المؤلف، ورغم تأكيده ذلك، يشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يتمتع بأي شيء، إذا لم يستطع مشاركة الآخرين فيه. والحياة مثل شعاع(يتنقّل وينتشر)، وهو دائم ومتجدد، عبر الأفراد الذين لا يتلقونه إلا من أجل هدف واحد، وهو إعطائه للآخرين.
ويحدد المؤلف القول انه، ومنذ أحداث مايو 1968، أصبح هناك ميل عام إلى كل ما هو مباشر، وكان ثمن ذلك، التخلّي عن كل ما ينشّط المحاكمة العقلية. وايضا يتطلب التمسّك بـالصرامة والثقافة. كما انه أصبحت السطحية قيمة مجتمعية، وباتت اللحظة الحاضرة نوعا من الوعد الأبدي عبر اجترار فرحها العابر.
الكتاب: تعاظم الفراغ
تأليف: نيكولا غريمالدي
الناشر: غراسيه - باريس- 2012
الصفحات: 176 صفحة
القطع: المتوسط
Leffervescence du vice
Nicolas Grimaldi
Grasset - Paris- 2012
176 .p
