يمثل كتاب "اللغة والقومية والتنمية في جنوب شرق آسيا"، الذي أعده لي هوك غوان وليو سيرياديناتا، وترجمه ياسر شعبان، يمثل مجموعة أبحاث لجماعة من الكتاب قرروا عقد ورشة عمل في عام2003م، تدور حول سياسة اللغة القومية وبناء القومية والتنمية الاقتصادية في جنوب شرق آسيا".. فقد كانت الفكرة والعمل تحت مظلة مجموعة من المؤسسات ودور النشر الداعمة، منها : "معهد دراسات جنوب شرق آسيا"، "مركز التراث الصيني، نانيانغ التكنولوجية بسنغافورة"وغيرهما.
فكان من الطبيعي أن يقوم على إعداد هذا الكتاب، من اختيار البحوث وعرضها، اثنان من المتخصصين في هذا المجال: لي هوك الزميل بمعهد دراسات جنوب شرق آسيا. وليو سيرباديناتا في جامعة نانيانغ. كما ترجمه ياسر شعبان، ونشر عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
وفي البداية، عرض الكتاب لشرح ثلاث كلمات: وهي اللغة والقومية والتنمية. وبين أنه قديما لم يكن يطرح الربط بينها، ولكن حدث هذا حديثا جدا، فبات الربط ضروريا، إذ إن اللغة هي الرابط والحافظ لعلاقات الفرد مع شبكة اجتماعية من حوله، منذ ميلاده، وبداية من الأسرة وحتى القبيلة والمجتمع.
وهذا، بينما القومية والتنمية، هما نتاج العالم الحديث، وليسا على قدر الأهمية المباشرة (في ذاتهما) للفرد، مقارنة باللغة.
ويؤكد الباحثون ان القومية في جنوب شرق آسيا، برزت، أخيرا، لمواجهة الاستعمار، ومع ذلك ظل مفهومها غامضا حتى عند كبار الساسة. وواقع الحال تلاحظ أنه كلما زاد الإصرار على سرعة تحقيق الدولة القومية، زاد الصراع والمشاكل، ومنها مشكلة حقوق اللغة للأفراد الذين يعشون داخل الحدود الوطنية للاقليم.
وتوضح ابحاث الكتاب أنه إذا افترضنا أن التنمية أمرا طبيعيا، فالمجتمعات شهدت التنمية بشكل تدريجي، ولم تمثل التنمية الحديثة التي يتوقعها البعض. بينما صورة التنمية في بعض المناطق من العالم، تشهد نموا هائلا ومتسارعا، حتى أصبحت العولمة خارج سيطرة الجميع. ولو فشلت الدولة سيزداد التوتر بين المجتمع والدولة.
ومن ثم، فإن فشل الدولة، يعنى فشل القيادة، وكلما صارت الشعوب أكثر قدرة على التحديث، وقعت القيادة تحت ضغط الوعود التي يعلنونها في الخطب والمؤتمرات. وأما أحد أشكال الضغط في جنوب شرق آسيا، فيتمثل في مشكلات بناء القومية والتنمية. ويبقى السؤال هنا : ماذا يمكن عمله لبناء القومية؟
وتشير الدراسات هنا الى أن المشكلة هي وجود العديد من اللغات والجماعات القومية، وكلها تطلب من الدولة الاعتراف به، وهذا في مقابل أن دولنا في جنوب شرق آسيا، قد تتعرض لمخاطر، من دون سابق إنذار وأن يكون مجهول المصدر، وذلك مثلما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية الأخير، فقد شعرت دول جنوب شرق آسيا، أنها وحدها من دون سند لمواجهة خطر مجهول.
ومن المؤكد أن اللغة ترتبط أيضا بالتنمية، كما ارتبطت بالقومية. إلا أنه، ومن اجل تحقيق الدولة القومية، تم القضاء على بعض اللغات، وكان الثمن غاليا لتحقيق تلك الدولة. ومع ذلك تلاحظ في أندونسيا، أن أغلب الشعب لا يجيد لغة "البهاسا" أو اللغة القومية.. ومع ذلك سلطة الدولة التي تسعى لاستخدام لغة معينة (اللغة القومية)، وتهميش اللغات الأخرى، يؤدى إلى أضعاف بنيان القومية.
وفي هذا الإطار، كانت ضغوط التنمية كبيرة، ومطالبها متعارضة مع عملية بناء القومية، بالإضافة إلى أن التنمية بحاجة إلى رضا الشعب والحياة الميسرة.. والحقيقة أن حاجة التنمية إلى اللغة، أقل من حاجة تحقيق القومية إلى اللغة.
ومع ذلك فتجربة الصين والهند، في استخدام اللغة الانجليزية في الدراسة، بدلا عن اللغة القومية، من الإنجازات التي حققت تقدما في كل من الهند والصين، بينما أن سيريلانكا وضح تخليها عن اللغة الانجليزية.
وكان هذا سببا في تدهور المستوى التعليمي أو بالأحرى المستوى البحثي والدراسات العليا. وتطرق أكثر من بحث في إطار العلاقة بين الكلمات الثلاث: اللغة، القومية، التنمية. ويمكن أن يثار السؤال: حول إلى أي مدى يمكن أن تكون "اللغة" بمثابة مقياس أو مؤشر، من دولة تستهدف القومية؟ إلى دولة تستهدف التنمية؟
ويتضمن الكتاب، بحثان حول التجربة الفلبينية، وبالذات تجربة التعليم ثنائي اللغة، اللغة الفلبينية (البلبينو) التي هي اللغة الأولى المعبرة عن القومية. ومن ثم الانجليزية التي تتيح فرصة اقتصادية أفضل للأفراد. إلا أن قلة الاستثمار في اللغة القومية، أدى إلى تقليص دورها كرمز للهوية والوحدة. وهو ما ارتبط بتحويل العملات الأجنبية للعاملين بالخارج إلى الدولة، وهو ما جعل الدولة تعطي للانجليزية مزيدا من الاهتمام.
أما البحث الخاص باللغة في اندونسيا، فكشف عن أنها من الدول القليلة فى العالم، التي فيها لغة الأغلبية هي ليست اللغة القومية. وتم استخدام لغة الملايو العرقية، باعتبارها اللغة القومية. وتقدمت تلك اللغة كثيرا، بعد الاستقلال، بل واستمرت لسنوات طويلة.. إلا أنه خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت بعض اللغات الأجنبية في مشاركة تلك اللغة، وخاصة الانجليزية.
وفى بحث آخر، حول التجربة الأندونيسية، يتناول الكتاب موضوع : "الأدب القومي"، حيث اكتفت الدولة بالأدب المكتوب باللغة المالاوية، وفى مرحلة تالية، تم تنقيح هذا الأدب، ونزع ما يتعارض أيديولوجيا، مع مفهوم القومية.. ومن ثم ظهرت، اخيرا أدبيات تفرض نفسها في الجزر المختلفة بالغات الأخرى، والأفكار المتنوعة غير تلك المطروحة سابقا.
وأما دولة سنغافورة، متعددة اللغات والأعراق، فقد اعتمدت الدول فكرة ثنائية اللغة (اللغة الأم إلى جانب الانجليزية)، وبمضي الوقت تبين للحكومة أن إهمال اللغة الصينية لأصحاب العرق الصيني، أدى إلى تقليد الغرب، وضد الهوية القومية.. وعادوا واهتموا باللغات العرقية.وفى دولة تايلاند أهملت الحكومات موضوع اللغة، حتى انتبهت واعتبرت لغة الأغلبية هي اللغة القومية.
وأخيرا، يلفت الباحثون في هذا الكتاب، إلى أنه تتعدد النماذج والحلول، وتبقى القضية الأم وهي: اللغة والقومية والتنمية.. وذات اتصال وتواصل وتداخل، بحيث يصعب فصل أي من الثلاثة، لبناء الدولة المعاصرة في عالم جديد.
الكتاب: اللغة والقومية والتنمية في جنوب شرق آسيا
تأليف: عدد من الباحثين
إعداد: "لي هوك غوان وليو سيرياديناتا
ترجمة: ياسر شعبان
الناشر: " كلمة"- هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (سابق): (هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة -حاليا-) 2011م
الصفحات: 350صفحة
القطع: الكبير
