هل للأدب دور في تشكّل الدولة؟. هذا هو السؤال الذي يطرحه أستاذ الأدب المقارن في جامعة بيركلي، انتوني ج. كاسكاردي. ثم يحاول الإجابة عليه، انطلاقاً من عمل الكاتب الإسباني ميغيل دو سرفانتس، الذي يحمل عنوان "دون كيخوته". وذلك في بحث موسع ضمن الكتاب بعنوان: "سرفانتس والأدب والخطاب السياسي".
يدرس المؤلف مدى حضور السياسة في عمل سرفانتس الشهير، شارحاً كيف وجدت السياسة في الأدب، بمختلف أشكاله، لتكون سبيلًا للتعبير في أسبانيا خلال القرن السابع عشر. ويعيد ذلك الحضور بشكل خاص، إلى الرقابة التي كانت تمارسها السلطات العامة على العمل السياسي، بما في ذلك، على مختلف أشكال التعبير عن القضايا العامة.
ولا يتردد المؤلف في أن يصنّف سرفانتس، في عداد سلسلة من المفكرين السياسيين، مبيناً أنه أحد مؤسسي النظرية السياسية الحديثة، التي تجد جذورها البعيدة لدى أفلاطون، عندما رسم أسس "الجمهورية الفاضلة".
ويحدد المؤلف أن "سرفانتس" كان من أوائل دعاة الحرية باعتبارها قيمة من أسمى القيم في الحياة. وهذا ما يبدو من خلال جملة قالها دون كيخوته لرفيقه سانخو بانزا، في الرواية، وجاء فيها: "سانخو، إن الحرية هي إحدى أعظم الهبات التي أعطتها السماء لبني البشر. وليس هناك ما يعادلها، لا الكنوز التي تخبئها هذه الأرض بجوفها، ولا تلك المغمورة في أعماق البحار. والحرية، على غرار الشرف، يمكن للمرء، بل ينبغي عليه، أن يغامر بحياته من أجلها".
ويرى المؤلف في رواية "دون كيخوته"، عملًا ينتمي بامتياز، إلى العصور الوسطى، وخاصة إلى ما كانت تحمله من قيم الفروسية، ولكن أيضاً عملاً ينتمي إلى الحقبة الحديثة التي وجدت بدايات تأسيسها في القرن السابع عشر، إذ كان المؤلف قد نشرها بجزأين، صدر الأول في مدريد عام 1605، والثاني في عام 1615.
وفي مواجهة تلك الصرامة، بدا دون كيخوته، خارجاً على القانون، بمعنى ما. ذلك أنه كان يميل إلى قلب المعايير. وهكذا رأى في أماكن الإقامة التي كان ينزل فيها، نوعاً من القصور المسحورة، واعتبر الفتيات الفلاحات أميرات جميلات. وكذلك لم يتردد في اعتبار طواحين الهواء بمثابة عمالقة أرسلهم سحرة أشرار.
وحدد دون كيخوته هدفاً رئيسياً له في اجتياز أسبانيا، من أجل محاربة الشر والدفاع عن المضطهدين. وهكذا كان لا بد من توصيف الشرور التي تعاني منها البلاد، وتنفيذ مهمة محاربتها، الأمر الذي كان يفصح عن خطاب سياسي بامتياز.
إن رواية دون كيخوته، كما يتم تقديمها، تعرض، قبل كل شيء، صورة عن حقبتها. ولكن كل حقبة لاحقة قدّمت قراءة مختلفة لهذا العمل. وهكذا جرى النظر إليها عند صدورها، كرواية هزلية.
وبعد الثورة الفرنسية، أخذت بعداً شعبياً كبيراً، بسبب مضمونها السياسي الذي يحدد المؤلف جوهره بالتأكيد على أنه يمكن للأفراد أن يكونوا على صواب في مواجهة مجتمع بأكمله. والإشارة إلى أن أفكار عصر التنوير الفرنسي، أي خلال القرن الثامن عشر، قامت بشكل أساسي على مقولة التأكيد على أهمية الفرد. وأما في القرن التاسع عشر، فقد جرى النظر إلى رواية سرفانتس، على أنها ذات بعد اجتماعي بالدرجة الأولى. ويتحدد دور الخطاب السياسي في الأدب.
كما ظهر في "دون كيخوته"، بكون السياسة ليست سوى طموح إنسان في خدمة مشروع عام. ثم إن السياسة والإنسان لا يمكن أن يوجد أحدهما من دون الآخر. وفي بعض الأحيان، ربما يكون الإنسان أكبر من مشروعه، ولكن في أغلب الحالات، يواجه البشر في الواقع، وبعيداً عن ما يعبر عنه خطابهم السياسي، جملة من الأحلام التي لا تتحقق، ومن الطموحات الخائبة. وهذه هي الصورة الشائعة لـ: "السياسة في الأدب". ومن ثم فإن "دون كيخوته" لا يشذ عن هذه القاعدة.
ومن هنا بالتحديد يتم الحديث عن الكثير من الشخصيات السياسية، مثل "دون كيخوته"، إذ إن أبطالها عندما يعلنون عن مشاريع سياسية، ليس بمقدورهم تحقيقها. وفي الأدب يتم التعرّض للمواضيع السياسة بـطريقة غير مباشرة.
إن التداخل كبير بين الأدب والسياسة، كما تقول المحصلة النهائية في الإجابة على السؤال الأوّلي، والذي طرحه المؤلف عن ما إذا كان للأدب دور في تشكّل الدول؟ والتأكيد على أن التداخل بين المشربين، كان كبيراً في كل الحالات. وأيضاً التأكيد على أنه يمكن لرواية "دون كيخوته" الشهيرة، أن تكون "نموذجاً بليغاً" لوجود روابط وثيقة بين الأدب والسياسة. وذلك أن لهما في نهاية المطاف موضوعاً واحداً واهتماماً واحداً: حياة البشر ومستقبلهم.
الكتاب: سرفانتس والأدب والخطاب السياسي
تأليف: انتوني ج. كاسكاردي
الناشر: جامعة تورنتو كندا - 2012
الصفحات: 352 صفحة
القطع: المتوسط
Cervantes, literature and the discourse of politics
Anthony J. Cascardi
University of Toronto Press - 2012
352 .p
