يعيش العالم الرأسمالي، والعالم عامة، آثار أزمة كانت قد انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية في خريف عام 2008. وهذه الأزمة، وفيما هو أبعد من آثارها المباشرة، طرحت للنقاش الأسس الفكرية الاقتصادية للمنظومة الرأسمالية عامة.

وفي إطار هذه المنظومة اشتهر باحثان كبيران جرى اعتبارهما من مؤسسي نظرياتها الجوهرية، وهما جون مينار كينزي وفريديريك هايك. وهذان الاقتصاديان وأفكارهما، يمثلان موضوع كتاب الباحث الأميركي نيكولا وابشوت، الذي يحمل عنوان "كينزي - هايك، الصدمة التي حددت معالم الاقتصاد الحديث".

يبدأ المؤلف تحليلاته بالقول ان هايك وكينزي يشكلان نقطتي علاّم رئيسيتين في التاريخ الحديث للحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية. ذلك على أساس أنه ينبغي على كل مرشح أن يختار بين هذا أو ذاك، واختياره سيضعه في إطار خياراته الاقتصادية التي ستحكم عمله الرئاسي في هذا الميدان، وبالتالي سيحدد، إلى درجة كبيرة، معسكر ناخبيه.

الخيار هو إذن كينزي أو هايك، وما يعني، كما يشرح المؤلف، الخيار بين الحكومة أو الفرد، وبين تبنّي سياسة النهوض الاقتصادي أو سياسة التقشّف. ويعتبر أن كينزي وهايك، هما مثل الذهب والفضة في نهاية القرن التاسع عشر، أي كعنوان سهل يحاول أن يخفي خلفه واقعاً معقداً، بما أنتجه من نزاعات.

والكتاب يحاول بالدرجة الأولى، القيام بنوع من التأريخ لأفكار الباحثين الاقتصاديين الكبيرين، ولنقاط التمايز بينهما، وإلى حد كبير هو بمثابة نوع من تقديم سيرة حياة ورصد المسار الفكري للرجلين.

إن المؤلف يعود إلى سنوات الثلاثينات في القرن الماضي، العشرين، أي لتلك الفكرة التي عرفت "الكساد الكبير": الاقتصادي، في كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، باعتبارهما الرمزين الأساسيين للنظام الرأسمالي العالمي.

والإشارة أيضاً إلى أن ذلك الكساد كان يشكل تحدياً حقيقياً أمام النظريات الاقتصادية. وأصبح من المطلوب الإجابة على أسئلة جوهرية، يحدد المؤلف بعضها بـ: ما هي الأسباب الحقيقية للأزمة؟ كيف يمكن تجاوزها؟ هل الرأسمالية مهددة؟

أجاب المفكر الاقتصادي والأستاذ آنذاك سنوات الثلاثينات- في جامعة كمبردج، جون ماينار كينزي"، ووريث التقاليد الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، على مثل هذه الأسئلة، كما حددها أستاذه السابق ألفريد مارشال، مشيراً إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات التي تؤدي إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل.

وأما فريديريك هايك فقد قدم من فيينا للتعليم في مدرسة لندن للاقتصاد، وكان يتم النظر إليه باعتباره الثقل المقابل القادر على الإجابة على نظريات كينزي. وكان هايك ممثلاً للمدرسة النمساوية في الاقتصاد. وعلى قناعة تامة بتعليماتها بأن المبادئ الاقتصادية الكلاسيكية، هي الحل بالنسبة للرأسمالية ومستقبلها.

وقد اعتبر أن الاقتصادات الرأسمالية التي كانت تعاني من الكساد الكبير ستستطيع إيجاد سبل الخروج من الأزمة واستعادة توازنها، ذلك إذا جرى تركها تتصرف دون قيود عليها، أي ما يعني في واقع الأمر، الدعوة إلى تبنّي ما يسمّى اليوم: اقتصاد حرية السوق.

وفيما هو أبعد من النظريات الاقتصادية التي طرحها كل من كينزي وهايك، يقدم مؤلف الكتاب، على مدى قسم مهم من صفحاته، نوعاً من "سيرة حياة"، لكل من العالمين الاقتصاديين الكبيرين. وهذا مع الإشارة إلى أن سيرة حياتهما تماشت إلى حد كبير مع أفكارهما الاقتصادية الجوهرية.

يعود المؤلف إلى عام 1949، حيث قرر هايك: الاقتصادي الشهير الداعي لحرية السوق، الذهاب إلى أركانساس في الولايات المتحدة، حيث كانت قوانين تلك الولاية تتساهل كثيراً في إجراءات الطلاق، بالإضافة إلى كونه غير باهظ الكلفة. وكان هايك متزوجاً حينها، من امرأة اعترف صراحة بأنها كانت سيدة جيدة جداً، خلال العشرين سنة التي أمضياها معاً.

ولكن قلبه كان قد هوى امرأة أخرى متزوجة أيضاً، ولكنها حصلت على الطلاق سريعاً، وبكلفة معقولة. وأعطى هايك ثقته للسوق، بالمعنى العريض للكلمة. وكانت تلك الحادثة، كما يرى المؤلف، تنسجم إلى حد كبير مع سلوكية هايك كلها، ومع أفكاره. ولكن ذلك لم يمنع العديد من أصدقائه القدامى، من اعتبار سلوكه مثيراً للأسف. إذ صدمهم ما فعله من موقعهم كمحافظين على الصعيد الأخلاقي، بينما لم يكن هو كذلك (محافظاً)، وإنما بالأحرى ليبرالياً على الطريقة القديمة.

وكما في الحياة الخاصة، يؤكد المؤلف أن هايك لا يولي الأهمية الأولى للنظريات، وحتى الاقتصادية منها، ولكن بالأحرى لتأثيرها على السياسات الاقتصادية الفاعلة، في اتخاذ القرارات. وهكذا لم يتوقف كثيراً أمام ما تفرضه الأخلاقيات المحافظة في طلاقه وزواجه ثانية، بل لتحقيق الفاعلية والمصلحة الاقتصادية.

أما كينزي فقد نظر إلى الاقتصاد على أنه بمثابة مجال إنساني أو علم أخلاقي، عبر تقديم الأدوات التي تتيح القيام بمحاولات جدية لتأمين الخير للعالم. وكان قد فقد ثقته بقدرة الأسواق على أن تصل وحدها، إلى نقطة توازنها الذاتي، وإلى تأمين ما يكفي من فرص العمل.

وذلك على خلفية تأكيده، أن الأسواق هي آليات مصنوعة، وبالتالي هي بحاجة إلى مساعدتها من خارجها، لتحقيق توازنها. وكان كينزي، كما يشرح المؤلف، يعتمد في آرائه على فلسفة أكثر اتساعاً وأكثر تبايناً، من الاقتصاد، ذلك عبر الصيغة القائلة: "كلنا مآلنا هو الموت".

 

 

 

 

 

الكتاب: درس في الاقتصاد الرأسمالي.. كينزي- هايك الصدمة التي حددت معالم الاقتصاد الحديث

تأليف: نيكولا وابشوت

الناشر: دبليو دبليو نورتون لندن 2011

الصفحات: 382 صفحة

القطع : المتوسط

 

 

Keynes- Hayek

Nicolas Wapshot

W. W. Norton - London- 2011

382 .p