يؤكد كتاب" دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها"، لمؤلفه الباحث ومؤرخ العلم رشدي راشد، أن دراساته ومحاور بحثه، لا تهدف إلى الرجوع إلى الماضي للتغني والتفاخر به، إذ يبين المؤلف أن الهدف الرئيسي السعي إلى إقامة معرفة موضوعية عن الماضي العلمي للأمة، إذ لا وجود لأمة فاقدة الذاكرة، جاهلة بتكوينها، والعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، مثلها مثل كل الممارسات العقلانية، وهي من أهم مكونات الذاكرة.
وأما الخلفية الفلسفية التي ينطلق منها المؤلف، فتذهب إلى أن تجديد كتابة تاريخ العلم العربي، تسهم في تقدم تاريخ العلوم عامة. وتساعد في تحقق تاريخ العلم العربي للمهام الكبرى الثلاث، التي يعطيها راشد لكتابة ذلك التاريخ، ألا وهي:
فتح الطريق أمام فهم حقيقي لتاريخ العلم الكلاسيكي في العصور الوسطى وبدايات العصور الحديثة، تجديد تاريخ العلوم العامة بغية تخليصها من هيمنة النظرات العقائدية، فهم الثقافة الإسلامية والاقتراب من نصوصها العلمية للكشف عن عقلانيتها.
ويرى المؤلف أن أهم سمة امتاز بها العلم العربي، هي "العالمية"، بمعنى أن جميع العلوم الموجودة آنذاك، من يونانية وهندية وفارسية وسريانية وسنسكريتية، تلاقت وتلاحقت وتبادلت التأثر والتأثير داخل العلم العربي، فذلك التعدد كان له الدور الهام في صياغة بعض ملامح العلم العربي.
وهذا الأمر ينطبق على جميع العلوم، بما فيها الرياضيات والفلك والطب، فعلوم جميع الشعوب انصهرت تحت قبة الحضارة الإسلامية. وكان هذا الانصهار وليد تقاليد علمية عريقة في التنقيب والبحث عن كل كتاب علمي، وهي روح سيطرت على علماء تلك المرحلة.
ونجد الباحث راشد يشدد في محاور دراسته، على قدوم اليوم الذي سيتضح فيه دور المجتمع والمدنية الإسلامية، في انبثاق العلم العربي المركب من العلوم السابقة عليه، إذ بفضلها سنفهم كيف أصبح ممكناً للتيارات العلمية المستقلة الموروثة من الالتقاء والتزاوج، والذي تم عبر متابعة النتائج التي تم التوصل إليها ودمجها وتعميمها واستخراج نتائجها القصوى، في عملية إبداعية رهيبة، ميزت الحضارة الإسلامية.
وأما أهم إنجازين قدمتهما العلوم العربية للحضارة الإنسانية ــ طبقاً لما يبينه المؤلف ــ فهما تقديم عقلانية رياضية جديدة، واعتماد التجريب كنمط من أنماط البرهان العلمي الصارم. فعلى مستوى الإنجاز الأول ظهر الجبر ككيان قائم بذاته، وبدأت عملية تطبيق الجبر على الحساب ونظرية الأعداد، كما طبقوا الهندسة على الجبر، الأمر الذي أدى إلى ظهور علوم رياضية هامة، من قبيل: كثير الحدود، التحليل التوافقي، التحليل العددي، البناء الهندسي للمعاملات.
وعلى مستوى الإنجاز الثاني، فقد ترسخ تقليد علمي إسلامي، قلما نجد نظيراً له في الحضارات، إذ اعتمد التجريب كمكون منهجي من مكونات البرهان العلمي، في مختلف العلوم. وأما الفائدة التي جنتها العلوم من هذا الهوس التجريبي، فهي تقدم العلوم الطبيعية والطبية بشكل كبير، حيث انتقل عدد من العلوم من مرحلة المشاهدة والتأمل والقياس، إلى مرحلة التجريب والتحقق الدقيق، وقد انعكس هذا الأمر بشكل كبير على البصريات، كما قرب أكثر، بين الرياضيات والفيزياء .
ويشتكي راشد من نقطة حيوية، على مستوى جمع الكتب والنصوص التراثية العلمية، من الصعوبات الكبرى التي تواجه عملية جمع وتحقيق التراث العلمي العربي، ولعل أهم هذه الصعوبات، وجود عدد من العلماء يؤرخون من دون أن يكون لديهم خلفية تاريخية، عن المرحلة التي يؤرخوا لها.
وأما ثانيها فهو ظهور مفهوم للتحقيق، يقتصر على نسخ النص المخطوط، وتصحيح لغته، وضبط بعض مصطلحاته، من دون أي اهتمام بعصر العالم وفلسفته والوضع الاجتماعي والسياسي العام لعصره، وكذا استنطاق النص ووضعه في سياقه التاريخي والعلمي الذي يستحقه.
وينتهي المؤلف إلى التأكيد على ضرورة أن نمتلك العلوم العربية، ووجوب تأسيس تقاليد وطنية في البحث العلمي، وأن ذلك التملك لا بد أن يمر بعدة خطوات، وأهمها: إنشاء مؤسسات البحث العلمي، تعريب التعليم العالي، إحداث المكتبات العربية، الاهتمام بتاريخ العلوم.
الكتاب: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها
تأليف: رشدي راشد
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية ــ بيروت ــ 2011
الصفحات: 469 صفحة
القطع: الكبير
