تثير الصين الصاعدة، تساؤلات ومخاوف كبيرة، خاصّة فيما يتعلّق بمكانتها وموقعها على الساحة الدولية، وأيضا مدى سيطرتها في الأسواق الدولية. والكتب التي جعلت من الصين موضوعا لها، خلال السنوات الأخيرة، كثيرة جدا. ولعلّ أحد أكثرها جذبا وإثارة للاهتمام، الكتاب الذي قدّمه وزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنجر، تحت عنوان "عن الصين".
إن المؤلف ورجل السياسة والدبلوماسية الشهير هنري كيسنغر، يكتب عن 2000 عام من تاريخ الصين. وذلك على مدى ما يزيد على 600 صفحة، موزعة بين 17 فصلاً، إذ تعرّض كيسنجر في الأوّل منها، إلى ما أسماه "تفرّد الصين"، وصولاً إلى "الألفية الجديدة"، كما جاء في عنوان الكتاب الأخير.
وهذا طبعاً، مروراً بالحديث عن "ثورة ماو المستمرّة" و"الدبلوماسية مثلّثة الأضلاع أثناء الحرب الكورية" و"عقد الأزمات" و"نهاية عصر ماو" و"ريغان وعصر التطبيع" و"ساحة تياننمن". والعديد من المحطات الأخرى في تاريخ الصين.
في البداية يطرح هنري كيسنغر، عدة أسئلة، من نوع : كيف يرى الصينيون العالم ؟
كيف ينظرون إلى الغرب؟ كيف ينبغي تصوّر العلاقات مع العملاق الصيني خلال القرن الحادي والعشرين؟.
ويؤكّد المؤلف، عددا من الثوابت التي تتفرّد فيها الصين، وليس أقلّها أنه ليس هناك أي بلد في العالم، يمكنه أن يباري إمبراطورية الوسط، كما يطلقون على الصين، من حيث العمر المديد والمتواصل لحضارتها؛ وليس هناك من يتمسّك أكثر منها بالمبادئ التقليدية المتأصّلة للفكر الاستراتيجي وفن السياسة.
وتتمثّل إحدى الأفكار الرئيسية التي يؤكّد عليها المؤلف، بالقول ان الصين لم تتواصل طيلة قرون طويلة، مع مجتمعات من وزن كبير أو مجتمعات متقدّمة. وكانت تعتبر الدول المحيطة بها، بمثابة كيانات تدور في فلكها. وهذا بالإضافة إلى اعتبار الدولة الصينية، أنها كانت معرّضة للتهديدات الخارجية، فضلاً عن النزاعات الكثيرة بين الفئات الداخلية المتنازعة.
ويتم الحديث في هذا الإطار، عن أن التاريخ القريب والبعيد للصين، كان باستمرار عاملاً حاسماً في تحديد سياساتها الخارجية، وكذلك تحديد مواقفها من الغرب بصورة خاصّة. والتأكيد على أن التاريخ الصيني، عرف دورات متعاقبة طويلة من الانكفاء على الذات، وتبنّي سياسات واستراتيجيات دفاعية وانعزالية، حيال بقيّة العالم.
ويميّز كيسنغر بين طريقتين متباينتين للتفكير، على خلفية الخلاف العميق في المفاهيم الاستراتيجية، بين الصينيين والغربيين. الصينيون يميلون إلى التعقّل ومعالجة الأمور، بطريقة غير مباشرة والتكدّس الهادئ والصبور للميزات النسبيّة، أمّا التقاليد الغربية، فإنها تعطي الأولوية للمواجهة الحاسمة بين القوى، كما يكتب المؤلف. وينقل في هذا السياق عن منظّر الحرب الصيني، ذي الشهرة العالمية، صن تسو، قوله في كتابه "فن الحرب" ما مفاده:
"الامتياز الأكبر لا يكمن في كسب كل معركة، لكن في الانتصار على العدو دون محاربته أبدا".
وإذا كان هنري كيسنغر يستعرض المنعطفات الكبرى التي عرفتها السياسة الخارجية الصينية، منذ الحقبة الكلاسيكية، وحتى اليوم، فإنه يركز تحليلاته على السنوات الستين الأخيرة، وتحديدا منذ وصول ماوتسي تونغ، إلى السلطة في عام 1949.
ويشرح المؤلف، أنه ساهم هو شخصيا في الانفتاح الصيني ـ الأميركي، والذي بدأ عام 1972 . ويحدد خلفياته السياسية المباشرة بأن ريتشارد نيكسون، أراد من خلاله، أن يُبعد وطأة الهزيمة الأميركية في فيتنام، بينما أراد منه ماوتسي تونغ، أن يدفع السوفييت إلى التردد، قبل القيام بأي عمل عسكري، ضد الصين.
وينقل المؤلف، أنه في أحد اللقاءات، هنّأ الرئيس الأميركي نيكسون، الزعيم الصيني، على تحويله العميق لحضارة قديمة كالصين. وكان ردّ ماو: "لم يكن باستطاعتي تحويلها، وكل ما فعلت هو أنني غيّرت بعض المواقع القريبة من بكين".
وفي معرض حديث كيسنغر عن دينغ هسياو بينغ، يصفه، بأنه رجل مقدام. ويذكّر أن نظرته الحزينة، تعود إلى حد كبير، للآلام الكبيرة التي عانى منها أثناء الثورة الثقافية، والتي قررها ماو. ويؤكّد كيسنغر، أنه تعرّض للتعذيب من قبل الحرس الأحمر، إذ رموه من بناية عالية في جامعة بيجين.
وفي كل الحالات، نال إعجاب الكثيرين، من خلال الدور الذي لعبه في نهضة الصين الحديثة. وإذا كان جورج دبليو بوش، قد بعث له، بعد سحق المتظاهرين بالدبابات، في ساحة تيننمان ببكين، في عام 1989، برسالة شديدة اللهجة، تضمنّت تهديدات صريحة بفرض عقوبات وإجراءات أخرى، كما يكشف كيسنغر، فإنه وصفه، وفي الرسالة نفسها، بـ "الصديق".
وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب يشرح كيسنغر لماذا تبقى العلاقات الصينية ـ الأميركية، أساسية، من أجل استقرار العالم.
ذلك أنه رغم الخلافات، حول العديد من المسائل، فإن مشاكل عالمية عديدة، مثل الانتشار النووي والبيئة وأمن الطاقة وسخونة الأرض، تفرض تعاوناً عالمياً.
الكتاب: عن الصين
تأليف: هنري كيسنغر
الناشر: بنغوان برس- نيويورك - 2011
الصفحات: 586 صفحة
القطع: المتوسط
On China
Henry Kisinger
Penguin press - New York - 2011
586 .p
