يبرهن كتاب" فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي" لمؤلفه الكاتب المغربي محمد آيت حمو، أنّ مبحث "الكلام" في الغرب الإسلامي، لا يزال تراثاً بكراً لم يتم بعد اكتشافه والتعرف عليه لأنَ الخوض فيه ليس سهلاً ويسيراً، بل مثقلاً وعسيراً.

 ومرد هذا، حسب المؤلف، يعود إلى التبديد الذي أصاب التراث الكلامي في هذه المنطقة، وهو التبديد الذي يقف عقبة في طريق الحكم على الوضع الكلامي الذي يفتقر إلى دراسات عن كثب في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي. فالعدد الجم من هذا الجنس من القول الذي هو الكلام قد ضاع كله، واندسّ إما قصداً عبر التاريخ لمحوه، أو بقي مدفوناً في ثنايا خزائن العالم. ومسألة إخراجه من "الوجود بالقوَّة" إلى"الوجود بالفعل" بالمعنى الأرسطي، مغامرة.. وتبعاً لذلك يمكننا الاطمئنان إلى القول بأنّ الاتجاهات الكلامية في الغرب الإسلامي، منطقة مجهولة يندر روادها وتتعذَّر مسالكها.

وهي دراسات وأبحاث واحدة متكاملة رغم تنوعها. فقد استعصى علماء الكلام الذي ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية على الارتشاء والاستدراج والإغراء والتطويع من طرف رجل السلطة الذي أحصى عليهم أنفاسهم، حتى ذهبت المحن المرة برؤوس البعض (القدريون الأوائل: معبد الجهني، عمرو المقصوص، غيلان بن مسلم الدمشقي)، (والمجبرة الأوائل: الجعد بن درهم، الجهم بن صفوان). وكادت تذهب برؤوس البعض الآخر - محنة المعتزلة بعد إصدار القادر لمرسومه الجائر، "الاعتقاد القادري"، ومحنة الأشاعرة في عهد الكندي- لأنَّ فترات العدل قليلة اللبث في تاريخ الإسلام.. وهذه هي ضريبة صناعة الكلام التي جعلت أهلها أكثر الناس ابتلاءً بالمحن السياسية. ونصيبهم منها ومن أنواع التعذيب وأصناف القتل المسلط عليهم نصيب الأسد من الفريسة. فراحوا ضحية بطش ولاة الجور والتغلب ومسوغات "أنصاف الفقهاء". فالسلطة لا تقبل بالمعارضة ولا بمجرد عدم المعارضة، بل تطلب التأييد اللامشروط. وبذلك سار علماء الكلام في اتجاه مخالف لذلك الذي سلكه الفلاسفة الذين قربهم الحكام إليهم وشملوهم بالرعاية، بدءاً بالكندي الذي وجَّه رسائله المختلفة إلى المعتصم وعُيِّنَ مؤدباً لابنه أحمد، وانتهاء بابن رشد الذي قدَّمه ابن طفيل إلى الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور، مروراً بالفارابي وابن باجة وابن طفيل الذين كانت لهم الحظوة عند الخلفاء، بالرغم من النكبات التي لحقت بعضهم من جراء ذلك. إنَّ علم الكلام ساهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية قديماً. ولا بد اليوم من إحيائه وتفعيله لاستئناف وتجاوز هذا البناء، وألفباء هذا الاستئناف والتجاوز الشروع تواً في وضع معجم لمفاهيم هذا العلم. وهذا المعجم هو أعز ما يطلب، إذ لا يعقل أنه ليس لدينا نظير "مقالة الدال" الأرسطية في علم الكلام حتى يومنا هذا.

ثمَّ يعتبر المؤلف أنَّ ابن حزم هو أوَّل من ابتكر "المنهجية التوثيقية" في نقده للديانتين اليهودية والمسيحية، وهو الأستاذ غير المباشر للفيلسوف اسبينوزا الذي تتلمذ عليه عن طريق أبراهام بن عزرا، دون أن ننسى الموقف التنويري لهذا الرجل من الفلسفة التي وقف منها موقف المدافع والمناصر لها. ولا ما قدَّمه الشاطبي، الفقيه المجدِّد وصاحب نظرية المقاصد، الذي استأنف وتجاوز النقد المشرقي للبدع. وأعاد عملية "إحياء علوم الدين" المشهورة للغزالي في المشرق.

وبعد ذلك يذهب الباحث محمد آيت حمو للقول بأنَّ الغرب الإسلامي في قرطبة، قرأ الفلسفة اليونانية مباشرة من كتب المشارقة المترجمة أو دراساتهم، والقول بأنَّ ابن رشد شرحَ أرسطو هو قولٌ خاطئ، لأنَّه شرحَ الكتب التي تُرجمت عن أرسطو، فالترجمة هي التي توجِّه شرحه وتحكم عليه وليس الأصل. على أنَّ أهم مكونات الفكر الفلسفي في الغرب الإسلامي.

وهي: أولاً، الرافد اليوناني، إذ إنَّ الدور اليوناني رغم محدوديته بفعل الحاجز اللغوي هو الأساس، وفهمه ضروري لفهم الفلسفة في الغرب الإسلامي. ففلاسفة الإسلام تفاعلوا مع اليونان واعتمدوا نصوص فلاسفة اليونان الذين تتلمذوا عليهم وهذا ليس عيباً، بل هو خصلة علمية واعتراف بالسابقين على اللاحقين.

فالفلسفة في الغرب الإسلامي هي نوع من الإحيائية، وعودة إلى اليونان بالرغم من أن الترجمة تمَّت في المشرق ومن طرف غير الاختصاصين، وبأقلام غير عربية. ثانياً، الرافد المشرقي، فالدور المشرقي لا يقل أهمية عن الدور اليوناني في الثقافة الأندلسية عموماً.

وفي المجال الفلسفي خصوصاً، فهو من الضخامة لدرجة أنَّ ابن رشد تمثيلاً لا حصراً- لا يُفهم بتاتاً إذا لم نعرف الفارابي وابن سينا والغزالي. فالمغاربة لم يترجموا شيئاً يذكر في المجال الفلسفي الذي عولوا فيه على المشارقة.

وثالثاً، الرافد الديني، فإذا كان مدخل الفلسفة المعاصرة هو العلم، فإنَّ معرفة الفلسفة في العصر الوسيط تستلزم معرفة الدين وقراءته. فالغرب الإسلامي عرف عقيدة ومذهباً واحداً بخلاف المشرق الذي عرف تنازع التيارات: الخوارج، الشيعة، المعتزلة، أهل السنة، الأشاعرة، الحنابلة. إضافة إلى النزاعات التشريعية (الشافعي)، فالمدخل بالنسبة إلى الغرب الإسلامي يقتضي معرفتين فقط: المالكية والمذاهب العقدية التي انتشرت في المنطقة.

فكتُب ابن رشد لا تُفهم دون فهم المذهب الأشعري، لأنَّ التوفيق بين الدين والفلسفة عند الشارح الأعظم كله، ردود على الأشاعرة. ورابعاً، الرافد المحلي- وهو العنصر الذي يتمثَّل في الموقع الجغرافي للغرب الإسلامي، وفي التراث المسيحي اللاتيني الذي كان منتشراً في إسبانيا قبل الإسلام، والجالية اليهودية التي لا تقل خطورة عن الجالية المسيحية، إذ ظهر فلاسفة لهم دورهم الكبير: ابن ميمون، ابن جبرول.

 

 

 

 

الكتاب: فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي

تأليف: محمد آيت حمو

الناشر: دار الفارابي بيروت ومنشورات الاختلاف الجزائر 2011

الصفحات: 311 صفحة

القطع: المتوسط