كان المثقف، الروائي أو الشاعر أو الفيلسوف أو العالم أو غير هؤلاء ممن يمكن تصنيفهم في خانة المثقفين، يتمتع بنوع من السلطة المعنوية «الروحانية» كانت تمنحها له أعماله ومؤلفاته وإنجازاته.

من هنا كان لأفكاره وزن لدى الرأي العام. بل ووزن يعطيه الحق، إلى هذه الدرجة أو تلك، بانتقاد السلطة القائمة ودعوتها لتحمل مسؤولياتها ولاحترام العدالة والقانون. وكذلك الحق بالتوجه إلى الرأي العام وتنبيهه إلى مسألة ما قد تكون غائبة عن الذهن. باختصار كان المثقف مواطنا يمتلك من خلال ما يقدمه من أعمال في ميادين اهتمامه، سلطة فاعلة-أحيانا».مثل هذا الواقع لم يعد قائما الآن كما يشرح الفيلسوف الفرنسي والأستاذ في جامعة السوربون ايف شارل زاركا في كتابه الأخير تحت عنوان «عزل المثقفين». «العزل بمعنى فقدانهم لسلطتهم السابقة». ذلك أن هذا المثقف لم يعد اليوم سوى «بهلوان» دون أية سلطة ولا دور حقيقي. إنه «مجهّز» فقط بموقع في إحدى شبكات السلطات المتنوعة بغية أن يحافظ على وجوده في دائرة اهتمام وسائل الإعلام.

ويشرح المؤلف واقع أن المثقفين كانوا يتمتعون وحتى عهد قريب في بلد مثل فرنسا بـ «سلطة أخلاقية» تعطيهم دورهم ومكانتهم. وهذا ينطبق على إميل زولا الذي كان قد وجّه في نهاية القرن التاسع عشر «رسالته المفتوحة» الشهيرة إلى رئيس الجمهورية آنذاك تحت عنوان «إنّي اتهم» وطالب فيها بوقف حملة الافتراء ضد الضابط «دريفوس» المتهم آنذاك بالتعاون مع ألمانيا، وحيث انقسمت فرنسا عندها بين مناصري «دريفوس» وبين المطالبين بإنزال أشد العقوبات فيه.

وأخيرا ثبتت براءته وأعيد الاعتبار له عام 1906. لقد خاض المثقفون الفرنسيون آنذاك معركة حقيقية من أجل العدالة والحرية وعبؤوا أغلبية الفرنسيين لدعم معركتهم.

ونفس المعركة ونفس الدور لعبه المثقفون منذ إميل زولا وحتى ميشيل فوكو، مرورا بالعديد غيرهم من أمثال البير كامو وجان بول سارتر وريمون آرون، كما يشير المؤلف. هؤلاء كلهم، رغم التباين الكبير في آرائهم حول دور المثقف، تناظر نشاطهم مع «النموذج الفاعل» للمثقف في مجتمعه.

ويحدد المؤلف نقطة الانعطاف الأساسية فيما يخص دور المثقف في أواسط سنوات السبعينات من القرن الماضي، العشرين، ذلك ليس كون أنه لم يعد هناك مثقفون من كتّاب أو علماء أو فلاسفة، وليس كون أنه لم يعد هناك مثقفون يتدخلون في الشأن العام، ولكن بسبب بروز القوة الكبرى لوسائل الإعلام وخاصة للتلفزيون، ليس فقط على الصعيد السياسي أو صعيد الاتصالات والتسلية والترفيه ولكن أيضا على الصعيد الثقافي والفكري.

على خلفية مثل هذا الانعطاف لم يعد «عمل» المثقف و»نتاجه» العامل الأساسي في اكتسابه «سلطة» ما. ولكن بالأحرى أصبح الظهور في وسائل الإعلام، خاصة التلفزيون، واحتلال صدر الأخبار في الصحف والمجلات وغيرها، هو «مفتاح الدخول إلى المسرح العام».

ولم يعد الأمر الأساسي هو تقديم «عمل» وإنجازات في هذا الميدان الثقافي أو ذاك، وإنما بالأحرى هو «دفع الآخرين» للاعتقاد أن هناك عملا وإنجازات. وهكذا يمكن للتركيز على «الصورة» و»الحضور» الإعلامي أن يخفي وراءه قدرا كبيرا من «ضحالة» الفكر.

ويرى المؤلف أن «مثقفي الظهور الإعلامي» ما كان لهم أن يستأثروا إلى هذه الدرجة الكبيرة بـ «المجال العام»، دون الاستفادة من «تواطؤ» أولئك الذين تكمن مهمتهم في «تنظيم» العملية و»تسويقها» للجمهور العريض. ويقصد المؤلف بأولئك «المنظّمِين» الصحفيين الذين أصبحوا بمثابة «ممرات إجبارية» على المثقفين أن يسلكوها إذا كانوا يريدون «الظهور» واحتلال موقع على المسرح الإعلامي.

بهذا المعنى أيضا يرى المؤلف أن «المثقف» قد أصبح بدوره في عداد الباحثين عن الاستعراض كالممثلين والراقصين وغيرهم. ذلك تمشيا مع القاعدة السائدة القائلة «بمقدار ما يسمعك الآخرون ويشاهدونك تزداد شهرتك، وبمقدار ما تزداد شهرتك تغدو كاتبا كبيرا أو عالما كبيرا أو فيلسوفا كبيرا».

مثل هذا المنطق من «البحث عن النجومية» حوّل المثقفين إلى «دمى» صغيرة. لكن قد يتم الإنصات لها أو مشاهدتها أحيانا على خلفية المكان الذي تحتله و«المحدد لها» في المشهد السمعي-البصري. والجميع يعرفون ما سيقوله المثقف «المعني» وعما سوف يتحدث عنه.

إن المؤلف يرفض ذكر أي اسم من المثقفين المعاصرين الفرنسيين أو غيرهم. لكنه يؤكد أن «المشهد العام مشبع بمثل هؤلاء». وبالتالي «ليس هناك مكان لك»، ويقصد من يريد قول شيء آخر فـ «من يعرفك.

ومن يطالب بك؟ ولن يسمعك أحد».وينتهي المؤلف إلى القول إن أولئك «الذين يرفضون الانصياع لهذا السوق الخادع ينسحبون بصمت» ليمارسوا التدريس أو الكتابة أو البحث أو يفعلون شيئا آخر في إطار دوائر صغيرة وقد يلقون أحيانا بعض المحاضرات على صعيد محلي بعيدا عن المجال الإعلامي العام».

الكتاب: عزل المثقفين

تأليف: ايف شارل زاركا

الناشر: المطبوعات الجامعية الفرنسية باريس - 2010

الصفحات: 240 صفحة

القطع: المتوسط

La destitution des intellectuels

Yves Charles Zarka

P.U.F ? Paris- 2010

. p