أين اختفى الهرير المسكين؟ لو كان في بلادنا نسور أو صقور لاشتبهت في أنه أضحى ضحية لأحد هذه الجوارح. لعله سقط من فوق سطح البناء؟ لكن القط حذر وماهر في السير على الحبال والحافات حتى لو كان صغيرا!.. بحثت في أسفل البناء فلم أجد أثرا! فأين اختفى؟
كلما صادفت أولادا وأنا في طريقي إلى العمل سألتهم عن هرير أشقر صغير ضائع.. مضت عدة أيام، وكدت أنساه، وطمنت ابنتي إلى أن أحد الجيران «تبناه»، إلى أن أفادني الولد رياض (سبعة أعوام) إلى انه يسمع صوت مواء قطة من حمام بيتهم، ففرحت وأحضرت مرآة وجريت صاعدا الأدراج يلحقني الأولاد الذين تركوا كرتهم كي يعرفوا حكاية البئر المواء.. وصلت إلى المنور وعكست ضوء الشمس على قعر البئر فرأيته!!
البئر معتمة، فهذه الآبار تصمم لتهوية الحمامات وتنفيس الأبخرة، وإنارتها نورا طبيعيا ومنها جاء اسمها الحركي «منور البناء»، وهي بئر مربعة الأضلاع، طول الضلع الواحد متر. «بلوندي» المسكين (ولا ادري سبب انتشار التسميات الفرنجية على الحيوانات، لعل ذلك يعود إلى أن تربية الحيوانات دُرجة مستوردة وافدة، منتشرة بين الخبراء الأجانب وقد أخذناها عنهم) كان يموء راجيا ويستغيث طالبا النجدة وهو يحاول تسلق الجداران الصماء بمخالبه التي لا بد أنها فلت..
وتمنيت لو أن أخته «بلاكيا» هي التي فقدت، فبلوندي أشقر، لطيف، وديع، أنيس، أليف، يستسلم للمداعبات كالخرقة ومطيع، ينصت للكلام محاولا فهمه في حين أن أخته بلاكيا تشبه الجرذ، وهي خوافة، ريّابة، غير قابلة للاستئناس. وتساءلت ترى كيف لم تنتبه القطة الأم إلى سقوط ابنها في البئر، أم أن أخته الشريرة هي التي دفعته، قصدا أو لهوا، ليخلو لها ضرع أمها؟
جلست «هيا» تبكي وتطلب إنقاذ الهرير وهي لا تكف عن مناداته فيرد عليها ببكاء له صدى. طمنتها: يبدو هريرك سليما معافى وقلت: اطمئني.. القطط بسبع أرواح. وسأخرجه حالا قبل أن يموت من الجوع والعطش.
كنت قد بنيت لعائلة القطة بيتا فوق السطح من صندوق خشبي والعائلة أم وابنة وابن، وثالثة توفيت عند الولادة ولعلي كنت سبب موت الثالثة لأني كلما وجدت الأم الحامل تقعي تحت السرير لتضع، ظننتها تريد أن تعملها تحت السرير فأخرجها بالعصا.
القطط ليست مثل الكلاب، فهي تنوع أماكن إقامتها ولا تلبث في مكان، لكن السطح اجبرها على الإقامة في الصندوق الخشبي، فتربية قطة في شقة أمر صعب، ابتلتني بها ابنتي هيا بعد زيارة لصديقة روسية الأم، اسمها ماشا، ولدت قطة ماشا عدة قططيات فتبرعت بها للصديقات..أصبحت اشتري لقطتنا التي اسمتها الآنسة الصغيرة هيا «لولو» لحوما فضلات (غالبا رؤوس ورقاب دجاج أو أقفاص صدر أقوم بطحنها في الهاون النحاسي القديم) .
واكتشفت وجهين لمدينتي لم أكن اعرفهما، ففي بلدتي ناس (أمهات غالبا فالرجال يخجلون من هذا النوع من «البضائع») يشترون جلود الدجاج ورقابها التي يزهد فيها المستهلكون غالبا، أو تباع لمزارع الأسماك، وأن هؤلاء الفقراء يطبخونها ويأكلونها كوجبات دسمة، وتباع هذه الفضلات بأسعار رخيصة أو حتى مقابل جهود عضلية كتنظيف المسالخ. وكنت اتعتل أكياسا من التراب كي تتمرغ قطتنا مستحمة فيها أو تجعلها مقبرة لفضلاتها، فالقطط أكثر الحيوانات تهذيبا.
واكتشفت جانبا من البنية الاجتماعية الأخرى لبلدتي النائية، أو وجهها الأكثر سوادا فعرفت أن فيها سوقا رائجة لطعام القطط ومعلبات الكلاب وعرفت أن ثمة ترابا ناعما «كبودرة الرضع» يباع في أكياس مغلفة مستوردة من بلاد بعيدة حتى تقضي فيها القطط المدللة حاجاتها!! سعر كيس التراب الواحد يعادل سعر كيلو الدجاج المشوي المتبّل!
ليس من طريقة لإنقاذ الهرير سوى بالنزول إلى أسفل المنور، لكن النزول مغامرة حقيقية فالبئر عميقة، والمشكلة ليست هنا، فأنا استطيع المغامرة لكن لابد من اخذ الإذن من الجيران، وتجهيز حبل قبل كل شيء، مع أن اقتحام كهف البئر العتماء يحتاج إلى شجاعة حقيقية، فحوافها مليئة بأعشاش الوطاويط والعناكب الكبيرة.
نزلت إلى بيت أبو رياض، جاري في الطابق الأول الوحيد، فخرج وهو يمسح عرقه ويلعن الكهرباء وأبو الكهرباء وجدّ الكهرباء (أبو الكهرباء اسمه ماكسويل أما جدها فاسمه فارادي) وعاتبته فور خروجه على سكوته عن مواء القطة المحبوسة في المنور. أين نخوتك وشهامتك يا أبو الروض؟
تابعت استنخيه بالمأثور، فأبو رياض يرتدي انصع جلابياته ويتجه إلى الجامع مبكرا مع ابنه رياض، وذكرته بالحديث الشريف في المرأة التي دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت. فدافع عن نفسه بطريقة لم تخطر لي على بال وقال: انه لم يحبس قطة في حياته وهو بريء من هذه التهمة؟
طلب مني التفضل إلى الداخل كي اشرب شيئا باردا فرفضت، وتذكر انه لاشيء بارد، فالكهرباء مقطوعة من زمان، لن يهدأ لي بال حتى اخرج الهرير من البئر، أبو رياض دافع عن نفسه وقال انه يعود متعبا ودائخا من قيادة سيارته التكسي، ثم ماذا يستطيع أن يفعل للهرير؟ الناس تموت ولا احد يسأل عنها فما بالك بقط. وقال وهو يمسح عرقه بكمه: بجهنم.
تابعت معاتبته، ونبهته إلى انه في حال موت الهرير سيضطر إلى إخراج الجثة تخلصا من رائحة الجثة، وفي القط الحي ثوابان. فردّ قائلا أن الجيران كلهم سيشمون الرائحة، ولا بد أن صاحب نخوة سيخرج الجثة أو أنهم سيغلقون مثله نافذة المنور والسلام!!
عدت صاعدا، غاضبا من غلاظة أبي رياض، وجريت لاهثا إلى السطح، وقد وجدت فائدة وحيدة لقطع الكهرباء وهي إجبار الناس «اللي فوق» على ممارسة رياضة صعود الأدراج! أما «اللي تحت» فقدرهم الموت الزؤام في الظلام والشحوم الثلاثية.
فكرت في الذهاب إلى السوق لشراء حبل وقدرت طول الحبل اللازم الذي يجب أن يكون أكثر من ثلاثين مترا، وقدرت ثمنه بحوالي أجرة يومين من أجري، مبلغ ليس قليلا، وسيستعمل لمرة واحدة، لكن المشكلة هي في الحصول على موافقات الجيران بالنزول إلى حرمة المنور. تصور يا مرحوم الأب أن تكون إحدى السيدات في الحمام وقت «الاوبريشن»، ماذا سيكون موقفي وقتها. من يدري قد الحق بالهرير إلى السجن بتهمة الإرهاب أو تهديد السلم العالمي!!
عمدت إلى حل سريع وشكلت حبلا من سيور وخيوط واقتاب وأسلاك. وأنزلت وعاء به ماء وعدة رؤوس دجاج.. القطيط المسكين لا يزال رضيعا، طري الأسنان، توقفت عن إنزال الحبل وحطمت رؤوس الدجاج بحجرة وطحنتها حتى أسهل عليه المضغ..ثم تابعنا أنا وهيا مشاهدة الهرير سعيدين بمنظره وهو يأكل على ضوء شعاع الشمس المقلوب في المرأة، لقد مضى عليه أسبوع وهو جائع عطشان.. لو كنا في أوربا، لصار هريرنا خبرا مدويّا في نشرات الأخبار التي يحتكرها «أبطال» بلا بطولة تتجلى بطولاتهم في قص أشرطة حريرية! وربما نلت جائزة إنسانية ما، ولقبا كلقب (الرجل ذو الفؤاد الرقيق) ودخلت موسوعة غينيس المقدسة في الغرب.
كان المساء قد حل ووعدت هيا بحل المشكلة وجمع الموافقات يوم غد فنامت على مضض. في اليوم التالي اشتريت حبلا، وجمعت موافقات «خطية مكتوبة موثقة» من بعض الجيران، على أن يكون نزولي في وقت الظهيرة من يوم غد، بين الواحدة والثانية ظهرا، لكني لم استطع الحصول على موافقات الجيران كلهم، إذ لم أجرؤ على قرع باب بيت جاري في الطابق الثالث، بعد أن علمت انه «رجل مطاطي» فهو صاحب يد طويلة جدا، يستطيع أن يمد يديه حيث يشاء. وجاري في الطابق الخامس في الشقة رقم 8 عجزت أن اصطاده في البيت بعد عدة محاولات، انه «رجل خفي»، لا يرى أبدا. مضت صلاحية الكتاب الخطي، ولم تعد للموافقات قيمة قانونية!
الحياة تستمر هكذا، نرمي أصواعا من التراب ورؤوس الدجاج من الأعلى ونسكب الماء حرا فوق رأس القط المسكين السجين. فهكذا أسهل وأسرع من إنزال الماء في زجاجات أو أوعية، والقط ليس اشد عليه من الماء. القطط تجنّ من الماء. وتظل تلحس وبرها بلعابها المضاد للجراثيم إلى أن تنظفه من الماء الذي يبدو انه يسبب لها أمراضا جلدية.
أبو رياض قال لي مقترحا، أنّ جارهم في الشقة الأرضية «عسكري اسود» ويستطيع أن يؤمن لي تغطية كاملة إذا ما دفأت جيبه. ثم قال أن احمد ربي بأن خلصت من الهر والحل الأفضل أن أرمي له أمه وأخته والمّ شملهم في المنور! وأردف ناصحا نصيحته القديمة: القط يعمل أمراض قاتلة ونصحني أن (أدير بالي) منه.
قلت له انه لو كان في قلب جار الشقة الأرضية رحمة لأنقذ الهر بنفسه فهو يسمع المواء ليل نهار من غير أن يرف له جفن. كنت لا زال اطمع في أن يسمح لي أبو رياض بنقب حائط حمامه لكني لم أكن أجرؤ على اقتراح مكلف كهذا!! أو أن يقنع ابنه رياض في التدلي من نافذة الحمام التي ستتسع لجسمه الصغير.
خفض صوته وقال: أن جار الشقة الأرضية متعود على سماع أنين البشر بل ويستمتع به، ولن يهمه أنين قطيط. هاهي عمارتنا عامرة بالكائنات الخيالية الخارقة: رجل مطاطي ورجل خفي وعسكري اسود..
تذكرت الشقة الأرضية التي لم تخضع لقرعة الجمعية وتم ادخارها للعسكري الأسود بقوة النفوذ، فصارت أعلى شقة من حظي الأسود، لو دخلت الشقة القرعة لربما صارت من حظي وارتحت من صعود الأدراج وحمل أكياس التراب إلى ضفاف الغيوم واستمتعت بتربية القطط في جنينية الشقة الأرضية ونقب حيطان آبار المناور بلا ذنب.
يبدو أن بلوندي سيعيش عمره في المنور. لقد مضى عليه اثنان وعشرون يوما حتى كتابة هذه السطور.
قافلة الحياة تزحف ببطء الحلزون غارقة في عرقها ودبقها...
والآبار الثكلى تموء.
مغامرة البئر
ليس من طريقة لإنقاذ الهرير سوى بالنزول إلى أسفل المنور، لكن النزول مغامرة حقيقية فالبئر عميقة، والمشكلة ليست هنا، فأنا استطيع المغامرة لكن لابد من اخذ الإذن من الجيران، وتجهيز حبل قبل كل شيء، مع أن اقتحام كهف البئر العتماء يحتاج إلى شجاعة حقيقية، فحوافها مليئة بأعشاش الوطاويط والعناكب الكبيرة.
