أن ما يميز مجموعة « رأس ذي يزن » القصصية للكاتبة سعاد العريمي أنها كتبت في الولايات المتحدة الأميركية، وقد رصدت من خلالها مجموعة من الشخصيات الهامشية التي جمعها المكان في ظروف مختلفة، لتكتب عن أحلامها وآمالها في تلك البلاد القصية، وبعضاً من ماضيها الذي هربت منه لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها الفقر والعنف، إلاّ أن غالبية هذه الشخصيات تلقى مصيراً تراجيدياً في الوقت الذي تكاد تحقق أحلامها في أرض الأحلام.

والقاصّة إذ تمهّد لحياة «ذي يزن» الجديدة متتبعة أماني وأحلام والديه: المنذر و«الشليلة» وحرصهما على النأي به عن أنظار «داحس» القبيلة التي لم تنس ثاراتها، والتي تطلب ثأرها في ثلاثة أجيال. وبالرغم من الهرب واتخاذ احتياطات الأمان، إلاّ أن «داحس» هذه ستتمكّن من المنذر وترديه قتيلاً، وتتبع ابنه أيضاً، الأمر الذي يدفع بالأم إلى إرساله لعمّه في مدينة «ديترويت» الأميركية.

وهناك سيظنّ «ذي يزن» بأنه بات بعيداً عن سيرورة العنف والدماء، إلاّ أن القدر سيكون له بالمرصاد، حيث تلاحقه شرطة الإقامة هناك، ليعود إلى سيرة الملاحقة والخوف، ومعها استحالت المدينة إلى جحيم حقيقي يوازي ذلك الجحيم القار في ذاكرته عن «داحس» ولكن في ثياب الشرطة، ليعود في النهاية إلى أحضان الأمومة مسجّى في تابوت، ورمزاً كبيراً لانكسار الأحلام.

ومن اليمن تتّجه القاصة إلى المغرب لتكتب عن الفتاة المغربية الشابة «زهيرة» وهي تواجه مصيرها وحيدة في لوس أنجيلوس بعدما وقعت بين أيدي مجموعة يهودية في مقهى «تل أبيب».

وقبل السفر سوف ترصد حياة الحارة الشعبية المغربية وفرحة الجدّة «أم الرضا» وتوزيعها للملبّس والقطع النقدية على الأطفال، وقد ظنّ أهل الحارة أنها فازت بقرعة الحج، إلاّ أنها ستخبرهم بأن حفيدتها فازت بقرعة الأخضر الأميركي، وإلى ذلك فإنها ستعطيها كلّ مدخّراتها، وكذلك يفعل حسون حبيبها ضارب الطبل، يحدوهما الأمل في أن تصبح زهيرة ثرية في بلد الأحلام، والثراء القادم سيجعلها تحجّ بدلاً من المرة الواحدة سبع مرّات..

وهكذا تنزل هذه الفتاة العربية وحيدة في مطار «لاكس» الكبير، ولا تعرف إلى أي مكان تتجّه، إلى أن يصطادها مغربي يهودي اسمه منير موفاز، فيصطحبها إلى بار كوهين هرتزل لتعمل هناك راقصة، ثمّ تقتل بعد ثلاث سنوات وفي ظروف غامضة، وتقيّد قضيتها ضدّ مجهول، وللإخبار عن واقعة القتل توظّف القاصة تقنية محاضر الشرطة المكثفة والموجزة بدلاً من الشرح والسرد.

وفي قصّتها «ابتسامة من زيمبابوي» تتابع القاصة الفتاة «دورا» التي وصلت من هناك، وهي كما وصفتها: فتاة حالمة ودائمة الابتسام، تعمدت بمياه النهار وتوِّجت بأزهار النرجس الأفريقي، وتماهت بالطبيعة الغنية بالجمال، لتزجّ بها في صقيع أميركا حيث كلّ شيء غارق في الثلج والصمت، ولكنها مع ذلك تعيش فرحة كبرى بحصولها على منحة دراسية في إحدى الجامعات مع إقامة في أميركا، وتلك غاية أحلامها..

ومن خلال الحوار الدائر بين الساردة و«دورا»، سيتم الكشف عن مقصدية الحكاية:

«عربية أنا.. وعندما لم تستطع أن تحدد هويتي، فزعت لها سيدة تجلس بالجوار لتقول: إنها من الشرق الأوسط، نفذ المصطلح إلى بصيرتها بسرعة: أعرفه.. أنا اعرف الشرق الأوسط، هل أنت من إسرائيل؟

أفردت الخارطة وقلت لها: هذا هو وطني، الوطن العربي.. إنه كبير! قلت نعم، هل تستطيعين أن تحددي إسرائيل على هذه البقعة؟ انتفضت يدها وسقط القلم.».

وهكذا فإن هذه الفتاة التي لا تعرف حتى جغرافية إسرائيل حصلت على منحة من إحدى المنظمات اليهودية الأميركية، ونذرت بأن تزحف على ركبتيها من الكونغرس إلى البيت الأبيض في حال تحققت أحلامها، وهاهي الليلة تستعد لتنفيذ نذرها، وفي الغد سيجدونها «متجمدة في المنطقة الواقعة في مثلث الحكومة بين الكونغرس والبيت الأبيض.».

ومنها إلى «كارلوس» المكسيكي وانفصاله عن عائلته في رحلة خائبة أخرى إلى بلد الأحلام، وعن العنف الأبوي الذي واجهه الحاج رضوان بياع البسطرمة المغلية الذي التقطته الساردة في أحد الأزقة، لتروي حكايته والشقاء الذي عانى منه في التقاط الدود في مزرعة القطن، وهجرته إلى أميركا لعشرين عاماً خلت، وليموت في المكان قبل تحقق حلمه بالعودة. وعن الإيرانية «مهناز» وغيرها من القصص المتلاحقة التي تتبعت مصائر الشخصيات في أرض الأحلام .

تحفل كلّ قصّة بفضاء سردي ذي نكهة خاصّة، يتراوح ما بين الوصف والقراءة الواعية للأمكنة وبعضاً من تواريخها أو حكايتها، من مثل قصص: «رفح» و«فيض» و«مفتاح الباستيل» و«مانهاتن» بما يمنح القصص قيمة إضافية.

وبما يعزز توجّهات الأدب الملتزم في العودة إلى المشهد الثقافي من خلال توظيف تقنيات مبتكرة والدفع بها نحو المجاز والأخيولة لتجاوز أزمتها العامة، نظراً لأن القصّة هي ضرب فني ذي نكهة خاصة، ومثلها مثل الفنون الكلامية والبصرية الأخرى عانت كثيراً من وطأة التقليد والتشابه والتكرار.

الكاتبة في سطور

* د. سعاد العريمي كاتبة وقاصة وأكاديمية من الإمارات وأستاذة في قسم الاجتماع بجامعة الإمارات.

* لها اهتمامات بحثية حول النوع الاجتماعي ودراسات عن المرأة.

* صدر لها « حقل غمران» و«طفول» ، و«رأس ذي يزن» مجموعة قصصية جديدة تصدرها الكاتبة بعد نحو عشر سنوات من إصدار مجموعتها الثانية «حقل غمران» .

عزت عمر