عندما اصطدم محراث الفلاح محمود ملا الزير بصخرة فوق رابية مطلة على البحر في ربيع 1928 في مدينة اللاذقية السورية قام أهل قريته بحفر الأرض؛ فإذا بهم يعثرون على قبرٍ مبنيٍ من الحجر وفي داخله كمية من الأواني الفخارية، فشكَّل الفرنسيون الذين كانوا يحتلون سوريا آنئذٍ بعثةً أثرية برئاسة كلود شيفر الذي اكتشف وعلى بعد 1200 متر من هذا القبر مدينة أوغاريت على مساحة 36 هكتارا.
في عام 1939 توقَّفت عمليات التنقيب بسبب الحرب الثانية، إلى أن عادت إليها البعثة عام 1948 إنَّما تحت إشراف مديرية الآثار السورية، فتمَّ الوقوف على آثارٍ لخمس حضارات، الأولى تعود إلى عام 1600-1200 ق.م ، والثانية إلى عام 2100-1600ق.م، والثالثة إلى النصف الثاني من الألف الرابع حتى عام 2100 ق.م، والرابعة التي تعلوها تعود إلى النصف الأوَّل من الألف الخامس والرابع ق.م، والخامسة أو السفلى تعود إلى العهد الحجري النيوليثي من الألفين السابع والسادس ق.م.
وممَّا تمَّ اكتشافه في هذه المدينة، القصر الملكي بمساحة عشرة آلاف متر مربع، وله سبعة مداخل وخمس باحات رئيسية، بالإضافة إلى قاعة كبرى للاستقبال، وقاعة السفراء التي يتوسطها حوض كبير للأسماك، والحي الشمالي والحي الجنوبي، وغرف الحراس، والقصر الصغير، والأكروبول، وأقنية الري والصرف الصحي، ومعبد بعل. كما عثر على لوحة الأبجدية، وعلى رقم طيني لا يتجاوز طوله أصبع اليد في قاعة أمانة السر بالقصر الملكي، وهي كترتيب الحروف الهجائية العربية، وتضمُّ حروفاً ساكنة وحروفاً متحرِّكة إنَّما خالية من الحركات القصيرة كالفتحة أو الضمَّة.
على أنَّ الأبجدية كانت قد ابتكرت في عهد «نيقمادو الثاني» الذي تزوَّج من الأميرة المصرية «شاريلي» ابنة فرعون لأسبابٍ سياسية وكانت أوغاريت آنذاك في عصرها الذهبي. والأبجدية هذه هي لغةٌ سامية خاصة بأهل أوغاريت، وهي جديدة اكتشف منها حتى الآن ستمئة كلمة، تضم ثلاثين رمزا مسماريا، وكل رمز يشير إلى حرف ساكن واحد وليس إلى مقطع أو كلمة، وهي أبجدية غنية بالرموز والدلالات. ومن بين الرقم المكتشفة في أوغاريت رقم طيني يحوي قطعة موسيقية تعود إلى القرن الرابع عشر ق.م، وهي معزوفة تستغرق حوالي ثلاث دقائق تشبه ترنيمات الأطفال في عصرنا الحاضر.
كما عثر على نصوص قانونية وأدبية وتأملات ووصايا من مثل: إنَّ الحياة من دون نور، هل لها أكثر من الموت؟! و«لاتخبر زوجتك عن المكان الذي تخبئ فيه أموالك»(!!). وكان عدد سكَّانها يتراوح ما بين ستة إلى ثمانية آلاف نسمة، أما سكَّان مملكة أوغاريت فكان عددهم ما بين 40 - 60 ألف نسمة موزعين على أكثر من 150 قرية ومزرعة.
أما الديانة فكان طابعها إنساني ومليئة بالآلهة، إذ كان الأوغاريتي يرى آلهته مجسِّدة للقوى الطبيعية، وأنَّ لكلٍّ منها حيواناً يرمز إليها. ويعتبر(إيل) سيِّد الآلهة وكبيرها وخالق الخلق، وهو صاحب الأمر والحكمة الكلية، و«بعل بن إيل» وهو إله العواصف والمطر والغيوم وسيِّد الأرض والمرتفعات، و«أثيرات» زوجة إيل وهي ربَّة الحب والخصب والحرب، و«داغون» ربُّ القمح والمحراث. كما هناك آلهة من مثل موت وعشتروت وكوتار. لكنَّه ورغم عمر مدينة أوغاريت الطويل وما لعبته من دور اقتصادي وسياسي وجمالي، فلقد تعرضت في العام 1180 ق.م للدمار وزالت أوغاريت وسكَّانها عن الوجود، ربَّما بسبب عملية قرصنةٍ من بحارة، وربَّما بسببٍ زلزالٍ كما يرى بعض الباحثين.
أول أبجدية
أبجدية أوغاريت هي أكمل أبجديات العالم القديم وأغناها وأكثرها شمولاً تحتوي على 30 حرفاً، وبسبب التقدم والازدهار اللذين عاشتهما أوغاريت فكانت لغتهم من أهم اللغات، وإلى جانب لغتهم الأساسية استخدم سكان أوغاريت لغات عديدة ووضعوا لذلك قواميس متعددة اللغات، ولكن اللغة الرئيسية التي اكتشفت في رسالتهم هي لغة سامية خاصة بهم تسمى ب«أوغاريتية».
المدينة الحصينة
كانت أوغاريت مدينة محصَّنة، يقوم على حراستها رماةٌ ومحاربون يستخدمون المقاليع والأقواس والسهام في الدفاع عنها. أما الحياة الاقتصادية فقد قامت في أوغاريت صناعات مثل: الفضة، الأسلحة، التماثيل، العربات، الأقمشة، النسيج، وزراعة الزيتون والعنب، وصناعة حفر الأختام، والفخار، وعلب الزينة وأواني الشرب.
أنور محمد
