«على ربوة عالية خارج مدينة دمنهور تفاجئنا أسوار هذه الوكالة الرهيبة كالقصر المسحور، مغلقة الأبواب، معتمة، تدخلها فلا تلبث أن تنجذب بقوة لا تقاوم إلى أعماق عالمها السفلى، الذي يمور بحيوات الفقراء والغواني والمدمنين والفاشلين والمظلومين، نفوس جواهر تعيش جنباً إلى جنب، وتتشابك أقدارها في نسيج روائي محكم يعكس فترة من أحلك فترات الفقر والضياع في مصر وأوجاعها».
هذه العبارات هي تعريف الناشر لروايته »وكالة عطية« للروائي خيري شلبي. وشأن معظم محاولات الناشرين للتعريف بالروايات على امتداد العالم، فإنها تخفق تماماً في أن تلقي الضوء على مدى الثراء الهائل الذي تتمتع به هذه الرواية والسر في هذا الاهتمام العربي والعالمي الكبير بها. ونحن هنا لسنا بين يدي ملفات الناشر سواء بالنسبة للطبعات العربية أو بالنسبة للطبعات الانجليزية، وهي طبعات عديدة في اللغتين، ولكننا إزاء محاولة فهم هذه المقدرة المدهشة التي تتمتع بها هذه الرواية على اجتذاب القراء بحيث أنها بالفعل نسيج وحده.
إننا هنا حيال نسيج ممتد، على نحو ملحمي مذهل، من الحياة في أشد صورها تمزقاً وتقلقلاً، يجمع بين الحكمة والفوضوية والعاطفة والصراع المحتدم والممتد بلا انتهاء. الرواية الذي ستصحبنا على امتداد قرابة خمسمئة صفحة عبر السرد بضمير المتكلم، بكل مساوئه ومزاياه، هو شاب أخفق في تحقيق أحلامه في حياة أفضل بعد اضطراره للتخلي عن دراسته في معهد المعلمين بمدينة دمنهور بشمالي الدلتا، عقب اعتدائه على أحد مدرسي المعهد والذي دأب على الإساءة إليه والاستهانة به باعتباره من الفقراء الحفاة الذين قدموا من الريف لغزو المدينة.
هذا السقوط الذي يعانيه الطالب السابق سيلقي به في وكالة عطية التي منحت الرواية عينها، والتي كانت في وقت من الأوقات خاناً للتجار وتحولت الآن إلى منطقة غسقية موحشة تضم أصنافاً شتى من بشر عالم سفلي مروع. يلتقي صاحبنا بحشد من اللصوص والمحتالين والشحاذين والغواني وقطاع الطريق، ولا يدري أحد في الكون كيف يفلح في أن يجد لنفسه مكاناً وسطهم، بل ويتعايش معهم، بحيث يصبح واحداً منهم، ويروي لنا قصص الكثيرين منهم.
هنا نتوقف عند انتقاد طالما وجه إلى أعمال خيري شلبي وهو أننا في صميم نسيجه الروائي أمام دفق من القصص المتتابعة التي لا تربطها فيما بينها صلة حقيقية، وإنما هي نهر من الحكي ينداح جارفا أمام أبصارنا، فلا نملك إلا الإحساس بالذهول حياله، والاستغراق بلا انتهاء في تأمله ومحاولة فهم أسراره.
أياً كان الأمر، فإن تردي صاحبنا في هذا العالم السفلي المروع يبدأ ثم لا ينتهي، ويتخذ العمل أبعادا ملحمية فيما صاحبنا يمضي بنا في رحلته إلى جحيمه هذا الذي يحفل بشخصيات لا تتوقف عن البروز عند كل منعطف من هذه المتاهة، التي قد لا نبالغ إذا قلنا إنها تعيد إلى أذهاننا أصداء جحيم دانتي، أو رسالة أبي العلاء المعري الشهيرة، إذا واكبنا المؤلف في إصراره على السعي وراء الأغوار الأصلية لأعماله.
لابد لنا من ملاحظة كيف تتقلب حياة هذه الشخصيات بين الواقعي والفانتازي، بين المعاصر والمتجرد من الزمن، بين أبناء الطبقة الوسطى حديثة التهميش وبين الطبقة الشعبية عريقة التهميش، ومن المحتم أننا سندرك كيف أن صاحبنا الراوي قد بدا مشاهداً أو مراقباً لحياة هذه الشخصيات لكنه ما لبث أن أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة مخلوقات الوكالة العتيدة.
ومن المهم هنا أن نلاحظ أن الروائي يشدد على أنه اختار ضمير المتكلم عن قصد، بل وبعد دراسة وتجارب عديدة، وذلك في غمار حرصه على الوصول إلى المصداقية الفنية، باعتبار أن القارئ حين يرى أن الراوي هو الذي يحكي تجربته فإنه سيطمئن إلى أن المعلومات التي ستصل إليه صحيحة لأن صاحب القضية هو الذي يحكي، إضافة إلى تحقيق الحميمية والاقتراب الهائل من الشخصية.
غير أن هذا الضمير الأثير لدى خيري شلبي هو ضمير حافل بالعيوب والمثالب على الرغم من مزاياه العديدة، فهو يقلل من ثراء العمل عبر تقديمه من خلال رؤية واحدة، وهو يحرمنا من الإطلال عبر زوايا أخرى غير تلك التي يرى الراوية الأحداث من خلالها، ثم انه يسقط على الكاتب الكثير من صفات بطله والعكس يعد صحيحاً. ومن المهم أيضا التطرق إلى الواقعية السحرية في الرواية، فنحن نرى الكثير من ملامحها في الرواية، شأن العديد من أعمال خيري شلبي الأخرى وخاصة «الشطار» و«السنيورة» و«بغلة العرش».
والمؤلف نفسه لا ينفي ذلك، بل يشير إلى أن الواقعية السحرية هي إحدى مكوناته الشخصية، حيث إنه ابن السيرة الشعبية وألف ليلة وليلة، وتأثره بها طبيعي ومنطقي. ولعل القارئ المدقق يمكنه وضع يده على أجزاء من الرواية يمكن تتبعها مباشرة إلى ألف ليلة وليلة وإلى العديد من السير الشعبية الرائجة.
ولقد قيل الكثير عن تصوير خيري شلبي لملامح من الانحطاط في حياة سكان العشوائيات والمقابر وبلدات الريف، ولكنه هو نفسه يشدد على أن وظيفة الأدب ليست البحث عن الانحطاط الخلقي في الإنسان وبروزته وصنع تمثال له لترسيخه في وعي القراء، وإنما وظيفة الأدب هي إقامة تمثال لقيم جمالية تساعد الإنسان على التغلب على هذه الحياة القاسية، على حد تعبيره. وبغض النظر عن اتفاق القارئ أو اختلافه مع رؤية خيري شلبي هذه، فإنه لابد له من أن يسلم بأن روايته «وكالة عطية» هي عمل روائي شديد التميز بكل المعايير، وجدير بأكثر من قراءة حقاً.
خطوات نشوانة وحمقاء
رأيتني أستسلم لنوم عميق لم أعهده في حياتي من قبل حتى على الفراش الوثير. ثم رأيتني أمشي متسكعاً بمزاج رائق وبلا أدنى خوف داخل غابة كثيفة الأشجار لا أول لها ولا آخر. وكانت الذئاب والثعالب والسباع والنمور نائمة تتثاءب في ملل غير عابئة بخطواتي النشوانة الحمقاء. وكان يبدو أنني أعرف كل هذه الوحوش معرفة شخصية وأنها هي الأخرى تعرفني حق المعرفة وأن بيننا وداً قديماً لعله رابطة البحث عن لقمة في النهار ومأوى في آخر الليل .
مقتطف من رواية «وكالة عطية»
الكتاب: وكالة عطية
تأليف: خيري شلبي
الناشر: مطبعة الجامعة الأميركية - القاهرة2008
الصفحات: 434 صفحة
القطع: المتوسط
The Lodging House
Khairi Shalaby
American University in Cairo Press 2008
P.434
