على الرغم من أن الروائي الأميركي بول أوستر قدم إنتاجاً غزيرا في مجالات شتى تبدأ بالشعر وكتابة المقالات والروايات ولا تنتهي بسيناريوهات الأفلام، إلا أن هناك اتجاهاً قوياً من جانب الكثير من النقاد إلى وصف روايته الصادرة حديثاً بعنوان «رجل في الظلام» بأنها أفضل أعماله على الإطلاق.

في هذه الرواية نحن على موعد مع العجوز السبعيني أوجست بريل، الذي يرقد وحيداً في الظلام كل ليلة، بعد أن أقعدته حادثة سيارة، ولا سمير له إلا الموت الذي يتربص به. ولكي يملأ الساعات المؤرقة فإنه يفكر في قصة عن رجل يستيقظ على أميركا مختلفة، أميركا لم تقع فيها أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ولم تنشب فيها حرب العراق، ولكنها أميركا أدت فيها الانتخابات الرئاسية لعام 2000 المثيرة للخلاف إلى إشعال نيران حرب أهلية بين الولايات الزرقاء والولايات الحمراء أطاحت بحياة الملايين من البشر.

تراوح أحدث روايات أوستر بين هاتين الحكايتين، الحكاية التأملية والحكاية الفانتازية، وكل منهما ترتبط بناقد الكتب المتقاعد أوجست بريل، الذي يعاني من الآثار المروعة لحادث سيارة في دار ابنته في فيرمونت.

وقد فقد بريل زوجته العام الماضي، كما أنه يروعه الموت الصارم الذي اغتال حبيب حفيدته السابق، والحفيدة تتعافى بدورها في منزل أمها. والجد والحفيدة يبعدان عنهما الخواطر المؤرقة بمشاهدة أفلام سينمائية عظيمة طوال اليوم.

أما طوال الليل فإن بريل يعكف على إحكام حبكة قصة وين بريك، وهو ساحر يمضي إلى الفراش ذات ليلة مع زوجته في حي كوين بنيويورك، ويستيقظ في حفرة في أميركا التي غدت بلداً لا يعرفه.

في أميركا الأخرى هذه المجهولة، نجد أن جورج بوش هو رئيس الولايات المتحدة الأميركية، أو على الأقل رئيس الولايات التي لم تنفصل عن الاتحاد أما ولايات أميركا المستقلة فلها رئيس وزراء، ولكن المجتمع مزقه الصراع. ولم يعد هناك تلفزيون، والسيارات التي بقيت قليلة، أما الشيء الوحيد الوفير فهو البؤس.

قبل أن يتمكن بريك من تبين أين هو على وجه الدقة، تسند إليه مهمة اغتيال الرجل المسؤول عن تصور هذه الوصفية الرهيبة للأمور، وهو يشق طريقه متعثراً في هذا العالم الوحشي الغريب.

في هذه الرواية تناول أوستر العديد من موضوعاته الأثيرة، فالشخصيات تكافح من أجل المضي قدماً بعد أن تلقت خسائر مروعة. والعزاء يتم العثور عليه في الفن. وهناك قصة داخل قصة، وقواعد الواقع قابلة للتلاعب بها.

وكما هي الحال في الكثير من روايات أوستر، فإنه ليس بمقدور القراء التأكد من المنعطف التالي في رواية «رجل في الظلام». ولكن عليه أن يحذر فهذه الرواية تمضي به إلى أماكن أقل من روايات أوستر الأخرى. وعلى الرغم من التجول في أرجاء أميركا التي حل بها الدمار فإن هذا الكتاب معني بدرجة أقل بالسياسة ومعني بدرجة أكبر بالرجل الذي يكافح للتعامل مع «الوسط الأسود لعماء الليل».

ونهاية الرواية لا يمكن إلا أن تكون مفاجأة مذهلة حقاً للقراء، لأنها بعيدة عن النهاية التي يمكن للكثير من الكتاب التوصل إليها.وقد كان من الطبيعي أن تثير رواية على هذا القدر الكبير من الأهمية اهتمام الكثير من النقاد في أميركا وخارجها على السواء.

هكذا لا يتردد ستيفن اليوت، في مقالة له في صحيفة سان فرانسيسكو في إطلاق مقولته المثيرة للجدل وهي أن هذه الرواية هي أفضل كتب أوستر على الإطلاق. ويشير إلى أن هذه الرواية مختلفة عن أي شيء آخر كتبه أوستر من قبل، الأمر الذي يزيد من صعوبة المقارنة. وشأن أعمال كلاسيكية بارزة أخرى فإن هذه الرواية تترك القارئ بمشاعر أعمق بكثير مما يتوقعه من الكتيب الذي يضم هذه الرواية بين دفتيه.

ويكتب نشونسي ميبي، في مقال عن هذه الرواية في صحيفة «أورلاندو سنتينل» إن سحر أوستر لم يزدهر على نحو أكثر كمالاً مما نجده في رواية «رجل في الظلام» فهذه الرواية تمنح القارئ متعة حقيقية في القراءة من البداية إلى النهاية .

وتقول صحيفة «بوفالو نيوز» عن الرواية إنها ترتطم بالشاطئ كموجة هائلة، وتضيف الكثير فجأة وما تضيفه يمكن أن يترك القارئ مسهداً، لا يعرف النوم الطريق إلى جفنيه.

وتشير مجلة «جي. كيو.» إلى أن هذه الرواية تدور حول كون بديل لا يسقط فيه برجا المركز التجاري في نيويورك، لكن جورج بوش يظل رئيساً، وتندلع الحرب الأهلية في أميركا، ويقترب هذا العمل بنا من تفهم الحطام العاطفي الباقي.

وتشيد صحيفة «واشنطن سيتي» بأوستر باعتبار أنه ما من كاتب يعمل بجدية تفوقه من أجل إعطاء أميركا أدباً وجودياً تفخر به، وبطل الرواية أوجست بريل يتمتع بمزاج تأملي ويميل قليلاً إلى البأس بحيث يعيد إلى الأذهان أبطال الضد عند كامو، لكن «رجل في الظلام» ليست بحال قفزة في الفراغ، فأوستر يعالج موضوعه العزلة بصراحة ووضوح ويدرس العواقب العاطفية والانفعالية التي تترتب على الحرب.

وبدورها تقول مجلة «تايم أوت» إن رواية أوستر هي رواية متألقة ومذهلة عن العديد من جوانب الواقع الذي نعيشه فيما ألسنة الحرب تندلع عالية ملء الأفق.

وتصف مجلة «كيركوس» المتخصصة في عروض الكتب رواية أوستر بأنها رواية حافلة بالتحديات، تجتذب القراء بلا هوادة على امتداد صفحاتها المحدودة.

وبوسعنا أن نمضي طويلاً في الإشارة إلى المزيد والمزيد من المقالات التي تتضمن الإشادة بالمؤلف وبروايته معاً.

ولكن من المهم أيضاً أن نقترب من الوجه الآخر من العملة، أي من النقاد الذين كانت لهم رؤية مختلفة، ومناقضة في بعض الأحيان، لهذه الإشارات العديدة برواية أوستر.

ويلفت نظرنا في هذا الصدد المقال الذي كتبه ميشل هيل في مجلة «سبوكسمان ريفيو» المتخصصة تحت عنوان «رجل في الظلام لأوستر تتخيل حرباً أهلية جديدة».

في هذا المقال يشير هيل إلى أن رواية «رجل في الظلام» هي كتاب قصير، وكان يمكن أن يكون أقصر، والمثال الواضح على ذلك أن المؤلف يستغرق خمس صفحات لكي يقدم لنا على لسان بطله بريل تلخيصاً لفيلم «قصة طوكيو» وهو من الأعمال الكلاسيكية اليابانية التي يشاهدها عبر التلفزيون مع حفيدته. وربما ترتبط حبكة هذا الفيلم الياباني الشهير للمخرج أوزو من حيث الموضع من الرواية، ولكن تلخيصه في خمس صفحات في الرواية فيه الكثير من التجاوز الإبداعي ويشبه الانطلاق في طريق جيد الرصف لا لشيء إلا ليرتطم سائق السيارة بكابح سرعة على الطريق.

غير أن مجلة «ببلشرز ويكلي» تقطع الشوط كاملاً في الانتقاد الواضح والصريح والقاطع لرواية بول أوستر، فهي لا تترد في وصفها صراحة وبلا مواربة بأنها رواية «معيبة»، وهذا الوصف يرجع إلى أسباب هيكلية في مقدمتها عدم اتساق القصتين اللتين تشكلان جناحي الرواية، الأمر الذي يعكس قصوراً هيكلياً لا موضع للتشكيك فيه في بنية الرواية ذاتها.

أما الناقدة أنا كاترجون فهي لا تشيد بالرواية ولا تقلل من قيمتها، وإنما تذهب مذهباً يعد قواما بين هذين الاتجاهين في مقال مطول لها في مجلة »لايبراري جورنال« المتخصصة، فتذهب إلى القول إن «رجل في الظلام» أكثر قتامة وتأثيراً من رواية أوستر «حماقات بروكلين» وأكثر جاذبية من روايته «رحلات في قاعة النساخ»، وهي تنجح في مخاطبة الجمهور العريض والنخبة الأدبية في آن.

أياً كان الأمر، فإن رواية بول أوستر الجديدة تظل عملاً مهما وجديراً بالقراءة وربما بالترجمة إلى اللغة العربية، حيث أنه لم يترجم من أعماله إلى لغة الضاد إلا عملين لا ثالث لهما، الأول هو كتابه الشهير «ثلاثية نيويورك» والثاني هو روايته «بلاد الأشياء الأخيرة» وذلك قبل عقد ونصف العقد من الزمان.

الكتاب: رجل في الظلام

تأليف: بول أوستر

الناشر: هنري هولت نيويورك 2008

الصفحات: 192صفحة

القطع: المتوسط

Man In The Dark

Paul Auster

Henry Holt-N.Y.2008

P.192