من منا لم يتربع في ذاكرته ووجدانه فانوس رمضان؟ جميعنا خرجنا به ومعه، ورددنا أغاني فولكلورية رائعة وحوي.. وحوي ، مازال صدى صوتها يُشنّف آذاننا.. التي كانت ومازالت تستقبل صوت المغني المصري عبدالمطلب بعد إعلان ثبوت هلال رمضان الكريم، وهو يشدو بصوته العريض: رمضان جانا وفرحنا به تلقائياً يرد الجميع أهلاً رمضان ..

للفانوس الرمضاني حكايات تحكى.. حكايات ملونة بلون زجاجه المعشق داخل مشغولات نحاسية يدوية الصنع، تداعب نور الشمعة بداخله والتي تختبئ وراء باب صغير بالفانوس للاطمئنان بأن عطاء نورها مازال مشعاً فرحة وجمالاً.. رحلة طويلة ورائعة قطعها فانوس رمضان، تبدأ في صدر الإسلام عندما كان الفانوس يُضيء ليلاً لإنارة الطريق للذهاب إلى المساجد.. وللفاطميين معه قصة أخرى، فقد عرفه المصريون في الخامس من شهر رمضان في العام 385هـ ويوافق هذا اليوم دخول المعز لدين الله الفاطمي القاهرة ليلاً، وقد استقبله أهلها بالترحاب حاملين الفوانيس لتضيء طريقه بين هتافات الترحيب به.

وللحكاية بقية.. منذ ذلك العهد تحول الفانوس من وظيفته التقليدية في إنارة الطريق ليلاً إلى أخرى ترفيهية في عصر الدولة الفاطمية، فكان الأطفال وقتذاك يحملون الفوانيس الملونة المصنعة من النحاس المنقوش الذي يأخذ أشكالاً مختلفة يحيط بها زجاج ملون معشق فيما بين النحاس والزجاج في حوار حميم ـ يحملون الصغار ـ الفوانيس ويطلقون أغاني شعبية رائعة مثل فك الكيس وأعطينا بقشيش مطالبين بالحلوى والهدية بعد صلاة المغرب في رمضان. أما النشء فكانوا يسيرون في بداية الليل مع المسحراتي وكأنهم يعينونه على مشواره الطويل الذي ينتهي »عند ظهور الخيط الأبيض من الفجر ، وهو يقرع على الطبلة لإيقاظ أهل الحي للسحور.

وتعتبر مصر أول بلد في عالمنا العربي احترفت صناعة فوانيس رمضان، فقد برع الصانع المصري قديماً وحتى الآن في تنفيذ قطعة فنية زخرفية تأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة وأحجاماً مختلفة أيضاً.

هناك من الفوانيس الرمضانية ما يأخذ الشكل الرباعي مع نقوشات يدوية على النحاس الأصفر المصنع منه الفانوس والزجاج الملون، ويتميز الفانوس بوجود باب نحاسي صغير يفتح بمشبك رقيق نجد داخله شمعة ملونة يداعب ضوؤها ألوان الزجاج التي تتأرجح نوراً في الشوارع والأزقة ابتداءً من بعد الإفطار عندما يحملها الصغار يجوبون بها الشوارع والمقاهي القديمة خاصة في منطقة »سيدنا الحسين« و»السيدة زينب«، والأزقة الضيقة في خان الخليلي الموطن الأصلي لصناعة وبيع الفوانيس، تليها منطقة باب الشعرية وهي منطقة شعبية تعكس جماليات الفولكلور والاحتفالات بكل مناسبة.

وقبيل رمضان تزدان الشوارع والأزقة المصرية بالفوانيس المختلفة والتي لها جذب هائل في الإقبال على شرائها، فنجد الأسر تصطحب صغارها بفرحة كبيرة يختارون الفوانيس الملونة، وفي طريق العودة للمنزل، يغني الصغار الأغاني الشعبية، فيردد جيرانهم معهم ويشاركونهم الفرحة الكبيرة بقدوم شهر الشهور.. «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان» .

وتطورت أشكال الفانوس الرمضاني في الآونة الأخيرة من حيث الشكل، فهناك فوانيس على شكل جامع وبداخلها بطارية، عند الضغط عليها تنطلق الأدعية والأغاني الدينية، ولكن مازال الفانوس الرمضاني التقليدي له الحضور الأقوى والرائع والجميل، والذي لم تستطع الفوانيس البلاستيكية الصينية أن تنزل من مكانته، فتاريخ طويل وموروثات شعبية تساند الفانوس الرمضاني التقليدي.

وهناك أحياء شعبية بكاملها تستعد لصناعة جيل الفوانيس المصرية التقليدية قبل رمضان بشهور، من أهم هذه الأحياء خان الخليلي، ومنطقة الدرب الأحمر، والعتبة الخضراء، والغورية وباب الشعرية توارث الصّناع والحرفيون هذه الصناعة منذ عقود طويلة، وهناك أسر بكاملها يتوارثون صناعته يدوياً حتى الآن، من أشهرها أسرة «الحاج محمد بلاغة» في شارع السد بالسيدة زينب، وأولاد أبو إبراهيم في منطقة الحسين.

ويسمى الحرفي في صناعة الفوانيس بـ «السمكري البلدي».. ويبدأ الحرفيون في التحضير لصناعة الفوانيس بعد عيد الفطر مباشرة، وتزداد الهمة قبيل شهر رمضان.

أما عن مراحل صناعة الفانوس التقليدي، فالبعض يعتبرونها من أسرار المهنة ويحاولون البُعد عن البوح بها، وهناك من يتفاخرون بأنهم انفردوا بصناعة الفوانيس الرمضانية ويلقون الضوء على مراحل صناعتها والتي تبدأ بقص النحاس لأشكال متعددة منها المثلث والمربع والمعين وغيرها.

ويتم ذلك على نموذج كرتوني مُعّد من قبل بمقاسا ت مختلفة، وقطع تمثل هيكل الفانوس منها بلغة الحرفيين الشرفاتة، القبة، كعب الفانوس، الدلاية، الجدار، البِلْبِلة .

أما المرحلة الثانية فهي ثني الحواف النحاسية بآلة يدوية تتدخل مهارة الحرفي فيها، ثم يقوم الصانع بضبط أحجام الزجاج الملون لتتعشق مع النحاس في حوار أولي وكأنه التعارف فيما بينهما.

المرحلة الأخيرة يقوم بها حرفي أسطى وهو ريّس الحرفيين الأصغر سناً، يستخدم في هذه المرحلة أدوات خاصة كالمطرقة والسندال والمطرشة والسنبك وكلها من الحديد و»الشاكوش الخشبي«، يقوم الحرفي الأسطى ـ الأكبر سناً وحرفية بتمديد فتحات الفانوس وعمل الثقوب المختلفة له ويتم فيها ثني النحاس.

ويبدأ بعمل الزخارف اليدوية عليه مثل كتابة «رمضان كريم»، ثم يثبت الزجاج الملون داخل الشناية النحاسية المشغولة وتثبت في الداخل شمعة، تضيء للصغار الطريق والقلب والوجدان، وتظل ذكرياتهم مع الفوانيس متوهجة حتى يقومون هم أنفسهم بشرائها لأولادهم عندما يكبرون. وهناك أطفال من المناطق الشعبية يحضرون عملية صناعة الفوانيس، حيث يسمح لهم الأسطى بالفرجة فقط بدون التدخل في أي شيء حتى لا يتشتت ذهنه أثناء عملية التصنيع.

ومازالت حكاية فانوس رمضان، نسردها بكل الحب والشوق لزمن جميل بأهله وبمفرداته ومناسباته وفرحته، فماذا بعد؟

تتجمع حصيلة صناعة ونتاج الحرفيين في منطقة شعبية مازلنا نشم فيها رائحة زمان ونستشعر الفرح بحق، وهي منطقة تحت الربع معقل صناعة الفوانيس قبل أن تتفرع وتحتل هذه الصناعة أماكن أخرى، ويسيطر على صناعة الفوانيس في تحت الربع عائلة الحاج محمد شتا ، وهي عائلة تعاقبت أباً عن جد في صناعة وتوزيع نتاجها على أحياء القاهرة ومحافظات مصر المختلفة.

أما ثمن الفانوس المتوسط ذو الزخارف اليدوية، فوصل في مرحلة الستينات إلى ثلاثة قروش لا غير!!

أما الفانوس الكبير فوصل إلى ثمانية قروش في المرحلة ذاتها! أما الآن فيصل سعر الفانوس الكبير الذي يُزيّن قاعات ومداخل الفنادق الكبرى والخيم الرمضانية الخاصة بها في القاهرة إلى ما يتجاوز أكثر من ألف جنيه مصري..!! ولكنه ـ الفانوس ـ هو الذكريات الأغلى ثمناً بداخلنا فعشق المناسبة بكل مفرداتها ومظاهرها، لا يقدر بثمن أبداً.

«حدوتة مصرية» .. تستمر معنا في رحلتنا مع فانوس رمضان.. فإذا انتقلنا من ساحات وحوانيت وورش تصنيعه وبيعه، إلى الشوارع الكبرى في القاهرة، نجد إن «البوتيكات» في الأماكن الراقية كمنطقة الزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة والمهندسين ـ في هذه الأماكن يباع فانوس رمضان وعليه إهداءات رقيقة ـ فقد يلجأ العريس في فترة الخطوبة إلى شراء فانوس رمضاني عملاق كهدية لخطيبته وغالباً ما يصحبونه معاً لمنزل الزوجية، شاهداً على بداية الزواج الرقيقة، ويقف حكماً في المشاجرات فيما بعد! ولكن في كل الأحوال يظل شاهداً على عصر رائع جميل نتمسك به ونعيش فيه ومعه.. ولكن فقط بذكرياتنا.

الفانوس والدراما

للفانوس حضور كبير في مجال الدراما المصرية والسورية، فعندما يسلط المخرج الكاميرات عليه، يكون له أكثر من مدلول غير مدلوله الرمضاني، فمثلاً يعطي إيحاءات وكأن نور المنزل سينقطع.

وإن هناك حدثاً ما سيقع، أما في روايات كاتبنا نجيب محفوظ فالفانوس الذي يختلف من حيث الشكل عن فانوس رمضان، كانت له دلالات كثيرة، منها في الثلاثية الرائعة بأن «الست أمينة» كانت تنير لزوجها السيد عبدالجواد طريقه من المنزل وحتى الباب الداخلي الذي يخرج منه، ودعائها يسبق نور الفانوس.

أما السينما العالمية، فد أخذ ضوء الفوانيس فيها دلالة لأفلام الرعب حيث يسلط ضوؤها على الجدران فيظهر جلياً خيال لرجل على مشارف ارتكاب جريمة سطو أو قتل فوانيس عملاقة مصنعة من مادة الفايبر الملونة، تزّين سماء الدول الأوروبية في عطلة نهاية الأسبوع، وتشيع الفرحة في قلوب الصغار والكبار لشعوب تقدر معنى العطلة ومعنى الفرح.. وهذه النوعية الأوروبية من الفوانيس تعرف باسم »لاترن«، بدأت في ألمانيا منذ قرن أو أكثر ومنها انتشرت في وسط أوروبا كلها.

منى مدكور