في الطريق إلى الغيط، لم يدر عامر من أين خرجت لهم امرأة تستغيث، وتطلب حماية ابنتها من «ابن سي منصور». لم يفهم، لكنه طمأنها، قبلت يده:
* أبوس رجلك يا سيدي، أبوس رجلك يا ست زهرة، طالبة حمايتكم من «سي خليفة». انصرف عامر عنها وعن ابنتها، وانشغل بألقاب يوزعها الناس على من يشاءون، فأصبح خليفة «سي»، حتى المرأة في ثورتها وغضبها تعمل له حساباً، ولا تذكر اسمه مجرداً. قال إنه صبي، مجرد صبي، مهما يكبر فهو ابن منصور القهوجي. لم يخل غيط من طقطقة ذرة فوق النار، أو بحث شاب عن خشب جاف من أطراف فروع شجرة جميز، يكفي لشي كيزان لأسرة تستريح بعد عناء يوم طويل. نادى عامر أحدهم في دهشة، قائلاً إن هؤلاء الذين يلتهمون هذه الكيزان لن يستطيعوا تناول عشاءهم.
نظر الرجل حوله، ولما اطمأن أوضح أن الفلاحين يتعشون في الغيطان كل يوم، باستثناء يوم الخميس «يوم المرق». يأكلون الذرة فلا يتمكن منصور من محاسبتهم عليه، أو سلب حصة من هذا العشاء. يكفيه خمس المحصول الذي ينتزعه مما سيتبقى من الذرة وقت الحصاد.
بوصول عامر إلى الغيط، أعلن حسن ابن الخواجة وإبراهيم ابن الأرملة انتهاء يوم العمل، وتأجيل الشغل إلى الغد. رفض العمال الرجوع إلى البلد، فرحين بتشريف سيد أوزير. أتى بعضهم بالذرة، واختاروا أفضل الكيزان لزهرة، كي تنتقي منها ما تريد لنفسها، أو لابنتها عائشة التي أشارت إلى ثمار في شجرة. سألها حسن:
* لو عايزة الجميز المسكر، يبقى المختون بدل الباط.
اقتربا من شجرة جميز، وأدهشتها رشاقة حسن في صعود الشجرة، وحسن اختياره ثمار الجميز. كان يناديها، ويلقي الجميز في حجرها مباشرة، فلا يختلط به تراب. نبهته إلى سمكة صغيرة في الترعة، ترفع فمها فوق الماء قليلاً، كأنها تسحب بعض الهواء.
طلب إليها أن تكون سمكة، أن ترفع رأسها، وتغمض عينيها، وتفتح فمها. استجابت بفضول، فأسقط في فمها نصف ثمرة جميز، من بقايا ما تركه غراب. انتشى حسن، حسبها تراقب ارتباكاً يحاول إخفاءه. سألته عن سر هذه الثمرة. أوضح أن غراباً أكل منها، وأن الغربان لا تسقط إلا على ألذ الثمار.
أكلت بنهم. لأول مرة يتأمل حسن استدارة كعبيها والتفاف ربلتيها، من تحت جلباب ارتفع قليلاً، وأصبح وعاءً للجميز. لام نفسه، وأغمض عينيه حياءً، إذ تمتعت عائشة بدلال البنت الوحيدة، بين أخوين لأبيها، وأخ من الرضاعة هو إبراهيم، ورابع في حكم الأخ هو حسن الذي انتبه إلى قوامها، وأصابعها وهي تلتقط الجميز من حجرها، في رقة كأنها تنسج طاقية من الصوف، وتأكله بفم دقيق، يزداد جمالاً بحمرة ثمار تركت آثاراً على شفتيها.
راقبت ذهوله. ود لو تناول يدها وقبلها.
قال بسرعة:
* لأول مرة أنتبه لأنك أحلى بنت في البلد.
لم تستوعب كلامه جيداً. في طريق العودة إلى غيط الذرة، استعادت كلماته، سرها أن تكون موضع اهتمام الشاب المتأنق، وابتسمت فخراً. كادت يدها تترك الجلباب، فيسقط الجميز. نادته، فنظر إليه مبتهجاً، حلا له اسمه كأنه يسمعه لأول مرة. نسيت ما كانت تريد قوله، وعاجلته بالسؤال:
* حسن!، أنت خزيان؟
أحمر وجهه، وما درى إلا وهو يشق طريقاً إلى عامر، بين زحام أولاد ورجال وفواعلية فرشوا مدار الساقية بالصفصاف. جثا حسن وأغمض عينيه، غير قادر على النظر في عيني عامر. قال إنه يريد أن يخطب عائشة. خلت وجوه الذين سمعوه من أي تعبير. توقفوا عن شي الذرة والكلام والأكل، حتى زهرة لم تنطق، وإنما رنت إلى طفلة ساهتها وصارت عروساً.
التفت عامر حوله، لعله يأتنس برأي ولو صامت لأي أحد، أو تدله زهرة على رد مناسب، أو يقرأ ملامح وجه عائشة أو أخويها. تركوه لحيرة خرج منها بسؤال ألقاه، لكي يمنح نفسه وقتاً للتفكير:
* تخطبها؟، هنا في الغيط!
كادت زهرة تضيف سؤالاً آخر: «مهر بنتي حجر جميز؟!»، لكنها آثرت السكوت، تجنباً لإحراج حسن أو عامر الذي تأمل ابنته، ولمح فرحاً يطل من لمعان عينيها. ود لو سألها: هل أعجبك لأنه لا يخلع حذاءه، ويحرص على نظافته وهندامه، مثل أبيه الخواجة؟
نهض عامر حافي القدمين، تاركاً وراءه صمتاً لا يقطعه إلا صهيل الخيل، وهي تأكل قوالح الذرة الدافئة. نظر إلى السماء قائلاً:
* حكمتك !
نزع عود ذرة بجذره، وتبعته زهرة:
* قلقان على البنت؟
رأى أنها لا تعترض. أفهمها أن في العائلة ما يكفي من المجانين. جده عمران عادى أمه حليمة، وعشق جارية، وبنى لها بيتاً في سمنود. وأبوه مبروك تزوج بنت هوجاسيان، العبد الذي لم يكن على دين أوزير، وحاول أن يتعلم العربية بعد زمن. وأمه هند التي ظلت، إلى يوم مغادرة أوزير ماشية على صفحة النهر، تحكي بتفاخر عن ليلتها الوحيدة مع أبيه، فوق سطح منزل في طنطه.
كاد يسأل: كيف تتزوج البنت الوحيدة من نسل عمران، مؤسس أوزير، شاباً بلا حسب؟. أحجم عن السؤال، حتى لا يخدش كبرياء زوجته زهرة المغربية التي لا يعرف نسبها، ولم ير عائلتها.
فسخت زهرة كوز ذرة. ثم اقتربا من المنتظرين. استدارت إليه:
* البنت فرحانة، وحياتي عندك ما تزعلها.
دنا من عائشة، احتضنها ودموعه تفضح ضعف الأب.
زغردت الأم، وجاوبتها النسوة المتربعات على مدار الساقية بزغاريد تتعانق وتبدد سكون المساء، ونقلها النسيم من الغيطان إلى أوزير.
لأكثر من أسبوع، ترددت العربة على سمنود، للتعطير لعائشة. لم تغب عيون منصور عن أحد، من لحظة مغادرة بوابة أوزير حتى الرجوع. كان يتعمد انتظار العائدين أمام البوابة، ويصطحبهم حتى دار عامر، ويعرف كل خطوة لهم في سمنود: من أين اشتروا الأغطية والكساء، ومن أي وكالة اختاروا الآنية النحاسية.
حاول منصور إخفاء ضيقه بما يجري:
* وحياتك عندي يا سيدي، ما انتبهت لأن الصبية كبرت.
* وكبرتنا معها يا منصور.
* اللهم لا حسد يا سيدي، من يوم رجوعك، أيام حرب الفرنسيس الأولى، وأنت سيد الشباب.
أحس عامر بالزهو، وأطلق ضحكة:
* شباب؟، العمر رمح، وماتت صفية، وكبر إدريس ويحيى، والبنت....
تجهم وجه منصور، فلم يكمل عامر كلامه ولا نطق اسم عائشة. سأله عن السبب، فخذل منصور صبره، وخانه لسانه. قال إن عائشة كان أولى بها ابنه خليفة، لكنه انتظر انتهاء الحرب، حتى تكبر العروس. انتبه عامر إلى أن زوجة منصور جاءت مهنئة، أما خليفة فتجاهله، ولم يهنئ حسن حين قابله قبل يومين على السكة، ولم يبطئ سرعة الفرس.
زهد الناس في وليمة يعلمون أنها ستعم كل فرد في أوزير، وفرحوا بزواج ابنة سيد البلد، لكن سعادتهم الكبرى هي رؤيتهم له، وحديثهم إليه بدون حجاب. كانوا في انتظار من يبادر إلى بيع نفسه، ويعترف لعامر بمطاردات «خليفة» لبناتهم، حتى إن السكك والغيطان تبتلع الصبايا، اتقاءً لشره، حين يصل خبر عبوره فوق الفرس، أو متخفياً في عربة مغطاة يبدلها دائماً.
زهدوا في الوليمة، وكادوا ينقمون على «حسن»، لأنه انتزع منهم عامر، وهم على وشك الشكوى إليه من مجون ابن منصور. أبدت الخادمة خوفاً على «حسن». غسلت رأسه بأدعية، لترقيه وتحميه من شياطين الإنس والجن، وعائشة لا تفهم وتضحك، فتمسك يدها، وترقيها هي الأخرى، وتسدي إليها النصائح، حتى ساعة الزفاف، والبنت لا تستوعب، وتبتسم لأبويها، ولا تجد أخويها. قال لها إبراهيم إن إدريس يقرأ القرآن ويدعو لها. أخفى عنها أن يحيى يسعى لاستمالة الغازية، ويغريها في رسالة قصيرة نقلتها غجرية مقيمة في البلد، بمال كثير.
لم يغادر العروسان دار عمران. صعدا إلى الدور الأعلى، حيث جهزت لهما غرفة واسعة، وحمام يسع الطشت النحاسي الكبير. اطمأنت عائشة إلى أشيائها المرتبة بالغرفة، وخرجت إلى السطح. رددت بعض ما سمعته من الأغاني، ثم رقصت فاكتشفت رهافتها. أعجبتها اللعبة، ودارت حول نفسها كفراشة، والثوب الأبيض يحيط بها، حتى داخت وتعثرت فيه. بدت مثل ثمرة ناضجة وسط دائرة من الفل الذي زاد بهاءها.
راقبها حسن بصدر منقبض. يتشاءم بالسطح، وقلما يصعد إليه. تجسدت له ليلة «مبروك» في طنطه، فأسرع وفاجأ عائشة من الخلف، بوضع يديه فوق عينيها، فأبعدتها. لفت نظرها إلى ضرورة نزع ثوبها. سبقته إلى الغرفة، كأنها تختبر قوة السرير بالقفز فوقه، ثم أرخت ساقيها. أدارت وجهها، حين هم بخلع جلبابه، فأعاده.
كان مرهقاً وجائعاً، وانتظر أن تستجيب حتى يتناولا الأرز المعمر واللحم المحمر. من غضبه اختفت رائحة الطعام التي كانت تغطي سماء الغرفة والسطح. ناولها كأساً من الشربات، وذهب إلى ركن الغرفة، قاعداً فوق كرسي.
رأي شفتيها بعد رشفة من الشربات في حمرة الجميز يوم خطبها في الغيط، حسب أن امتداح لون شفتيها يسرها، لكنها انزعجت، وأمرته بإطفاء النور، أو إخراج المصباح من الغرفة، حتى تنزع ثيابها. كان الطبق الخالي من الكأسين يرتفع عن فخذيه ويهبط، وحسن يرنو إلى وجه العروس، وينتبه إلى دقة رقبتها، وبياض ذراعيها تحت الثياب، وهي تضحك من رقصة الطبق. هالها ما اعتبرته وتداً في غير أرض، فهرعت هابطة السلم، في قفزات متلاحقة:
* الحقيني يا أم!
كانوا يتناولون العشاء. أدركت زهرة بخبرتها أن الأولاد لا ينبغي لهم أن يسمعوا ما يمكن أن تقوله هذه الغافلة. قابلتها بعيداً عن الطبلية. قالت بلهجة من يستفهم ويلوم:
* عيب، اطلعي فوق.
من حيرتها، لم تجد البنت كلاماً، أشارت إلى ما بين فخذيها. ثم قالت بخوف وابتسامة لا تخفي العجب:
* قال لي: «اخلعي هدومك»، وأنا رفضت. قعد على الكرسي، وطلع له من تحت هدومه وتد.
قرصتها زهرة في خدها، وأخذتها بعيداً، وهمست في أذنها. حين صعدت عائشة، وجدته خارج الغرفة، يفترش السطح، نائماً فوق حصيرة، وبجواره المصباح. اقتربت وما رأت للوتد أثراً.
سألته:
* شربت الشربات يا حسن؟
حلا له اسمه، مثلما نطقته يوم أسقط في حجرها الجميز. لان قليلاً، لكنه اكتفى بإيماءة، ولم ينظر إليها. خشيت أن تعود إلى أمها، وبفطرتها أعادت نطق اسمه، ثم دعته إلى الدخول. نبهها إلى أنه أخرج المصباح كما طلبت. قالت إنها تخاف الظلام والبقاء وحدها في الغرفة.
حذرته إن تمادى في التمنع، أن تنادي الخادمة، لتأتي لها بفراش من القطن، تضعه بجواره فوق السطح؛ إذ لا تحتمل النوم على حصيرة. ثم وضعت يديها تحت إبطيه، متظاهرة بأنها تحمله، وراقبت ظلاً ينقر الجلباب، لكنه هذه المرة ليس محكوماً بالصحن. قال إن شفتيها تحتفظان بحمرة يوم الجميز يوم الغيط، وأعطاها رشفة من الشراب، فاحمرت شفتاها.
طلبت إليه أن يدخل الغرفة بالمصباح، قبل أن يطفئه الهواء. هز رأسه بعناد الأطفال:
* لا.
* وإن قلت لك إني عايزة أشوفك؟
* تعالي هنا، على السطح.
* القطط تخطف اللحمة؟!
ثم علا الأنين الشهي، متبوعاً بصراخ وشهقات تقتحم السطح وتهبط السلم.
ضحكت زهرة، وذكرت عامر بليلتها الأولى، وهو خجل من أهل الدار.
طوال سبعة أيام، لم يغادر حسن الغرفة، إلا إلى السطح الواسع، يطل منه على الشوارع والسكك البعيدة، يرى العائدين من الغيطان، بأحمال الذرة، وأكياس القطن، يسبقهم غناء عذب تحمله نسائم شهر هاتور. في أول الليل يهبطان لبعض السمر مع العائلة، حتى تنتهي الخادمة من إعداد العشاء.
اعتاد كل ضحى أن يصحو من نومه، وينصت إلى تحية عائشة: «صباح الخير يا حسن». يرد عليها بأحسن منها، بتصفيف شعرها فوق السطح، والتفنن في تضفيره.. ضفيرة واحدة سارحة على الظهر، أو ضفيرتين يلفهما حول رأسها، أو ضفائر تتناثر على الظهر والصدر.
بعد أن ينتهي حسن من تضفير شعر عائشة الجالسة في حجره، يتحسس كعبيها. تعجبه نعومتهما، وميلهما للحمرة كلما اغتسلت. تشير إلى حجر غاطس في الطشت، فيسارع لالتقاطه، وتبدأ رحلة التحكيك، وحملها إلى الداخل، ثم الاستحمام، وتضفير الشعر مرة أخرى.
تبسمت زهرة من جرأة ابنتها. قالت لعامر إن البنت استولت على السطح، حرمتهم أسبوعاً رؤية الغيطان البعيدة. سمحت عائشة للخادمة بالصعود نهاراً، كلما احتاجت إلى طعام ساخن، أو ماء دافئ. تتعجل الخادمة، كأنها تتسلل، فتسند قدر الماء عند آخر درجات السلم، أو تضع الطعام فوق السور، تتركه حتى تأخذه عائشة.
حاولت في إحدى المرات أن تجهز الحمام، أتت بالطشت النحاسي الكبير، وغسلته بماء ساخن، ثم وضعت الكرسي الخشبي الصغير في منتصفه، والكوز النحاسي فوق كرسي آخر بجوار قدر الماء الساخن. نهرتها عائشة، ليس لأنها تخجل من الخادمة التي يمكن أن تلمح حسن عارياً في الغرفة، وإنما لأنها تحب طقوس الحمام، تستمتع بإعداده، ولا تسمح لأحد بالاقتراب من السطح.
بعد هبوط الخادمة، أغلقت عائشة باب السطح بمزلاج في نهاية السلم. بسطت الطشت، ونادت حسن، وجد الماء ساخناً بدرجة لا يحتملانها. قلبت الطشت، وأخبرته كيف ينقر عليه كأنه طبل. رقصت حتى تعبت. بعد الاستحمام، رشت الماء المعطر في أركان السطح، قالت إنه عورة، لا يصح أن يراه أو يشم رائحته عابر إذا سكبته من فوق السور، ولو في حارة لا يمر بها الناس. ضحك حسن:
* والله ما هو عورة، لكنه الخوف من الحسد!
قلقت عليها أمها، قرصتها في خدها، قائلة إن ماء الاغتسال نعمة من الله، وهو يحب أن يرى، آثارها في تراب الحارة.
في اليوم السابع، عصر الخميس، تذكر حسن أباه وأمه. رأت عائشة في عينيه حزناً دفيناً، عجز عن إخفائه. قال إن أحداً لم يقدم لهما رثاء. آلمه أن الذي أهان أباه ضيعت الأيام ملامحه، ولم يعد له في ذاكرته أثر.
سألته:
* عايز تنتقم؟
* لأول مرة أفتكر أني يتيم، عايز أنتقم من اليتم.
ألهمها ذكاؤها رداً أراحه:
* أهلاً يا سي اليتيم!. لك في الدار أب وأم، وأهل جهزوا لك العشاء ونادوا، وانتظرونا من ساعة.
أبلغه إبراهيم سلام الأنفار، وسؤالهم عنه. سأله عامر عما إذا كان سيخرج غداً لصلاة الجمعة، أم سيبقى في الدار أسبوعاً آخر، فانكسفت عائشة، وقامت بحجة أنها شبعت، وغسلت يديها. كانت الحمرة تكسو خدي عائشة من كلام أبيها، وأنصتت إلى طرقات على الباب، وهم حول الطبلية: أبوها وأمها وأخواها وزوجها وأخوها في الرضاعة إبراهيم والخادمة.
لم يكن من عادتهم إغلاق الباب، حتى بعد زواج عائشة، لكن العروسين يجب ألا يراهما أحد في الأسبوع الأول، وألا يتخطيا باب الدار، وألا تدخل عليهما حائض، أو حليق الشعر. لم تسأل عائشة من يكون الطارق. رفعت المزلاج، والنسيم يسبق صوته، فيلتصق ثوبها بجسدها الدقيق، وشعرها ينساب حراً من تحت منديل وردي. ظل الطارق، بما أتيح له من ضوء ما بعد الغروب والمصابيح الداخلية، يدس عينيه تحت ثياب عائشة. أحست بالعري، ولم ترد عليه بكلمة، وهو يهنئ بالزواج.
من فناء الدار، ناداه عامر:
* تفضل يا خليفة.
شكرهم الشاب، وهنأ مرة أخرى.
عادت عائشة بلا همة، مشت خطوتين في إعياء. قعدت فوق أقرب أريكة، على دكة نورج بجوار فؤوس وقِزَم في غلق من الجلد.
بعد ذهاب خليفة، سألتها أمها عما إذا كان سبب وجومها أن الشاب حليق الشعر، فيصيبها العقم؟
رمت عائشة عينيها في صدرها:
* عراني بعينيه يا أم.
أخفى عنها عامر أن منصور كان يريدها لابنه خليفة. حاول إلهاءها بنكات يستهدف بها حسن الذي نسي الطريق إلى الغيط والجامع، واكتفى بحضنها.
ضحكوا، وتناولوا القهوة. ثم بحثت عائشة في الدار عن حسن. قال إبراهيم إنه كشر، وتسلل خارجاً، وربما تعقب خليفة.
نهرته عائشة:
* وساكت من ساعتها؟
أمرت زهرة إدريس ويحيى بالبحث عنه، والعودة به. قال عامر إن البحث يجب أن يكون محدوداً بالجامع وقريباً من حديقة رينيه وأمام البوابة. هناك أخبرهم الحارس أن حسن سأل عن خليفة الذي ذهب قبل قليل إلى برج منصور.
أمسى برج منصور قلعة تحجبها أشجار الكافور. كانت ليلة الجمعة استثناءً؛ خرج الرجال، وبينهم منصور، حاملين المصابيح بعد صلاة العشاء، يجوبون الشوارع، والطرقات، ينادون حسن الذي حمل إليهم الفجر خبره. شوهد طافياً فوق مياه الترعة، وأصابعه تقبض على فراغ، وأثر أظفاره محفور في قبضتي اليدين.
كانت الخادمة أسرع في الوصول إليه من زهرة. تفحصت الخمش الواضح على وجهه، وعينيه الجاحظتين. ثم صرخت بالرثاء:
عين الجدع متطلعة برة
ومين يحوش الضيق يا أهل الله؟
عين الجدع متطلعة للباب
ومين يحوش الضيق ده يا أولاد؟
لطمت زهرة خديها. لم يسعف التراب الندي عائشة لكي تغبر وجهها الذي اختلط عليه الغبار والطين بالدموع. ألقت إلى الترعة بنفسها، فأنقذوها وحملوها إلى الدار. أصابتها حمى منعتها هي والخادمة حضور الجنازة، ومعرفة القبر.
هدها الإعياء، ثم استيقظت بعد العصر. ولولت، وأسعفتها عافيتها برمي الأغطية. هرولت إلى المقابر، تدور بينها، وفي يديها الضفيرتين، بحثا عن باب مقبرة حديثة الإغلاق، حتى عثرت عليه، فحاولت جذبه. لحقوا بها ومنعوها، وهي تلطم وجهها بتراب ناعم تذروه رياح الخريف. ترجاها التربي أن ترحم نفسها، وتكف عن إيذاء موتى المسلمين. قال إن هذا التراب من بقايا أجسادهم. لم تبال به، ودفنت ضفيرتيها أمام باب القبر. ثم لفوا جسدها، وهي ترتعش وتهذي.
بكى عامر ابنته وأمه. لام نفسه على أنه فرح، في حين لا تزال أمه غائبة. حمد الله على أنها لم تعد، حتى لا تشهد فاجعة جديدة. في الأسابيع التالية، واصلت عائشة ضمورها وإعراضها عن الطعام، حتى كادت تهلك، وتلحق بحسن، فازداد حزنهم عليه، وإن خفف عنهم إشارة الخادمة بأنها حبلى. لم تدر زهرة هل تفرح لنفسها ولابنتها، أم تواصل لوعتها على من مات، ومن لا تزال تعرض عن الحياة، حتى بعد أن دبت في بطنها حياة أخرى ولا تبالي.
سعد القرش في سطور
سعد القرش كاتب وإعلامي مصري له العديد من الأعمال الإبداعية والروائية أبرزها: «أول النهار» و«باب السفينة» وله مقالات ودراسات متنوعة أهمها (مفهوم الهوية في السينما العربية) حيث يعتبر أن السينما كان يمكن أن تقوم بدور خلاق في المجتمعات العربية وان من الممكن القول إنها أخطأت في حق الجمهور ولم تتبن قضاياه الحقيقية. وتمتاز أعماله الروائية بالجرأة ومحاكاة تجربة نجيب محفوظ خصوصا في روايته «باب السفينة» التي تنتمي إلى عالم الأرض وآخر يولي شطر السماء، وعالم يعيش الحياة بكل تناقضاتها وآخر يطمح إلى الكمال الطوباوي.
تدور أحداث الرواية حول العالم الداخلي والخارجي لشاب ريفي يعمل في إحدى الصحف القاهرية ويحمل في قلبه آثار حلم قديم هذا الحلم مكبوح، فالبطل قد أدرك مبكرا أن المعجزات قد غادرت زمانه.
فاجعة
لطمت زهرة خديها. لم يسعف التراب الندي عائشة لكي تغبر وجهها الذي اختلط عليه الغبار والطين بالدموع. ألقت إلى الترعة بنفسها، فأنقذوها وحملوها إلى الدار. أصابتها حمى منعتها هي والخادمة حضور الجنازة، ومعرفة القبر.
سعد القرش
