مؤلف هذا الكتاب هو عالم الاجتماع المصري السيد يسين والذي يعمل حاليا رئيسا لمرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية وقد قدم عدة مساهمات أثرى بها المكتبة العربية منها «الوعي التاريخي والثورة الكونية» و«حوار الحضارات في عالم متغير» و«العرب على مشارف القرن العشرين» و«الحرب الكونية الثالثة: عاصفة سبتمبر والسلام العالمي».
وفي كتابه الجديد يرصد المؤلف أثر انتقال المجتمع الصناعي الأوروبي بمشروعه الحداثي إلى مجتمع المعلومات العالمي وتصوراته حول ما بعد الحداثة والعولمة في السياسة والاقتصاد والثقافة. ومن هذه الزاوية يحاول المؤلف استشراف تأثير هذه التطورات على واقعنا العربي متطرقا إلى العديد من القضايا الملحة مثل المشروع النهضوي العربي وإمكانيات التحول الديمقراطي لدى النظم العربية.
وحسبما يشير المؤلف فإن ما يميز الحقبة التاريخية التي نعيشها هي الانتقال من الحداثة إلى العولمة، فالحداثة حسبما يشير كانت هي المشروع الحضاري الأوروبي الذي رافق صعود المجتمع الصناعي باعتباره نموذجا حضاريا جديدا بني على أنقاض المجتمع الإقطاعي.
وقد اثر المجتمع الصناعي بمشروعه الحداثي على كل أقطار العالم بلا استثناء حيث دار دورة كاملة ووصل إلى منتهاه وأعقبه نموذج حضاري جديد هو مجتمع المعلومات العالمي، الذي يتحول ببطء وإن كان بثبات، إلى مجتمع المعرفة مرافقا في ذلك بزوغ اقتصاد المعرفة حيث ستصبح المعرفة هي المولد الأساسي للثروة.
وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام يتناول في الأول منها التقدم والأمن الإنساني وأزمة الدولة العربية المعاصرة ومشكلات العقل التقليدي وتحديات العقل الإرهابي والجدل الفكري والسياسي الراهن وهو موضوع الهوية والمستقبل الكوني.
من وقائع ندوة حضرها في برلين والتي ناقشت إشكاليات التقدم في الثقافات المختلفة يتساءل المؤلف بشأن مفهوم التقدم الغربي وما إذا كان يصلح للتطبيق أم لا في ثقافات أخرى غير غربية؟ ويذكر أن هذه مشكلة قديمة متجددة في الواقع وهى مشكلة نشأت حين احتكت الدول الغربية التي تتبنى هذا المفهوم مع دول أخرى غير غربية.
ويذكر السيد ياسين أن مفهوم التقدم الغربي قابل صعوبات أخرى في مجال الثقافات غير الغربية وترد هذه الصعوبات إلى أن المثقفين ورواد الفكر في هذه الثقافات أدركوا بناء على تحليل متعمق أن فكرة التقدم هي جزء لا يتجزأ من مشروع الحداثة الغربي ولذلك تساءلوا منذ وقت مبكر حقا: هل تصلح الحداثة الغربية نموذجا حضاريا يحتذى به في بلادهم أم لا؟
ولذلك سيطر على الأذهان وأثر على سياق الدول المتخلفة وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية مفهوم التنمية وقد تم قبول هذا المفهوم على نطاق واسع نظرا لحياده وعدم تضمنه منذ البداية لانحيازات ثقافية غربية بالضرورة.
ويوضح السيد ياسين أنه إزاء تكشف قصور مفهوم التنمية عبر الزمن بدأ التفكير في العودة إلى مفهوم التقدم الغربي غير أن نهوض الدول الآسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان وماليزيا والتي لم تطبق النموذج الحضاري الغربي بالكامل أدى إلى إطلاق ما عرف بالقيم الآسيوية والتي تختلف في جوهرها عن القيم الغربية.
ثم يتطرق المؤلف إلى ما يصفه بأزمة الدولة العربية المعاصرة فيشير إلى أنه يمكن تلخيص أسباب الأزمة في معادلة واحدة وهى اشتداد مطالب الداخل وعنف ضغوط الخارج. ويذكر هنا أن الحديث ينسحب على كل الدول العربي باعتبار أن موجات التغيير الكونية العارمة التي اكتسحت العالم وغيرها من عوامل أدت إلى محو الفروق بين الدول.
ويذكر المؤلف أن عنف مطالب الداخل كان يمثل مثيرات على الدولة العربية المعاصرة أن تستجيب لها بإعادة صياغة رؤيتها للسياسة والحكم ورسم الخطط الاقتصادية الكفيلة بتحقيق مطالب الحد الأدنى للشعوب والتي تغرق جماهيرها العريضة في محيط الفقر.
وهنا يقرر أن عجز الدولة العربية المعاصرة عن إعادة صياغة رؤيتها للسياسة والحكم يمثل الفشل الأكبر مضيفا أن النخب السياسية الحاكمة مهما تباينت أنماطها في نظم ملكية أو جمهورية لم تدرك أنه آن أوان توسيع إطار دائرة الحكم.
وفي سياق محاولته لاستشراف المستقبل يذكر السيد ياسين أنه قد يكون أجدى لأهل الحكم في العالم العربي أن يقوموا بعملية حوار ديمقراطي واسعة المدى تشمل أطراف المعارضة والمثقفين وممثلي مؤسسات المجتمع المدني لإعادة صياغة الحكم بصورة ديمقراطية تكفل توسيع أطر المشاركة السياسية ورفع القيود أمام حركة المواطن في ضوء احترام دقيق لمواثيق حقوق الإنسان.
غير أنه يشير إلى أن ذلك الأمر تحول دونه العقبات مؤكدا على أن الإصلاح السياسي العربي يمثل تحديات جسيمة بالنسبة للنظم السياسية العربية حيث أنه لو أخذ بمعناه الحقيقي بمعنى الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية لاقتضى ذلك تعديلات جوهرية ليس فقط في بنية النظام السياسي نفسه ولكن في بنية المجتمع بكافة مؤسساته أيضا بل وفي جوهر الثقافة السياسية السائدة والنظم السياسية عموما.
ويبدو أن المؤلف يرى أن وضع أنظمة الحكم العربية تمثل أساس الخلل حيث يركز على ذلك الأمر في مختلف صفحات الكتاب وفي ذلك يشير إلى أن حالة هذا الحكم طوال الخمسين عاما الماضية كانت في غاية السوء لأنها خالفت كل قواعد الشرعية والشفافية وليس هذا غريبا على أي حال لأن أغلب النظم السياسية العربية كانت نظما شمولية أو سلطوية غيبت فيها مؤسسات المجتمع المدني وتم القضاء على التعددية وحوصرت بشدة حريات الفكر والتعبير والتنظيم.
ثم ينتقل بنا المؤلف إلى استعراض مشكلة الهوية والمستقبل الكوني فيشير إلى أن من أهم المشكلات التي تواجه الدولة العربية المعاصرة مشكلة الهوية الإسلامية المتخيلة ويقصد بها على وجه التحديد نزوع بعض جماعات الإسلام السياسي إلى ابتداع هوية يريدون لها أن تحل محل الهوية العربية أو حتى محل الهوية الإسلامية المعتدلة. والغرض المعلن، من هذا حسبما يشير، هو استعادة الفردوس المفقود ويعنون به عصر الإسلام الأول.
ويذكر المؤلف أن من أخطر الظواهر المصاحبة لهذه الموجة الدينية المتزمتة والمتشددة تواطؤ الدولة العربية بأجهزتها بما في ذلك المؤسسات الدينية التقليدية مع هذه الجماعات المتشددة التي اختلقت هذه الهوية لتدعيم شرعيتها السياسية المتهاوية أو لمجاراة الجماهير المتدينة لكي تثبت أنها ليست أقل إسلاما من هذه الجماعات التي أصبحت مصدر توتر اجتماعي حاد في المجتمع العربي المعاصر.
ثم ينتقل بنا المؤلف إلى ما يسميه جنون الإرهاب مشيرا إلى أن العولمة برزت في بدايات القرن الواحد والعشرين باعتبارها العملية التاريخية المتعددة الجوانب والظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس. ويوضح أن عددا من العلماء الاجتماعيين التفت إلى عمليات متناقضة صاحبت نشوء العولمة وانتشار أثارها في كل أرجاء الأرض.
ويوضح أن أبرز هذه العمليات أن العولمة يحكم فلسفتها الرامية إلى تأسيس سوق عالمي تختفي فيه الجدود وتزول فيه الحواجز ويتم الاتصال في لمح البصر بين الفاعلين الاقتصاديين في مختلف القارات تنزع إلى توحيد العالم.
في هذا السياق يتطرق إلى الوثيقة الأميركية التي صدرت بعنوان تخطيط المستقبل الكوني والتي تتوقع أن الهوية الدينية ستكتسب أهمية قصوى خلال العقدين المقبلين وخصوصا في مجال تعريف الناس لأنفسهم ونظرتهم لذواتهم.
وهنا يقول أن التأمل العميق في المشهد العالمي المعاصر يؤكد الآثار السلبية الخطيرة التي واكبت اتساع دائرة سياسات الهوية التي تقوم على أساس الهوية الدينية أو الانتماء العرقي في مختلف أقطار العالم.
وقد اهتمت هذه الوثيقة حسبما يذكر السيد ياسين في مجال دراسة وتحليل تأثير سياسات الهوية على الحكم الرشيد بما أطلقت عليه الإسلام الراديكالي وهى تتنبأ بأن أعداداً كبيرة من الشباب في أغلب بلاد الشرق الأوسط سواء في المشرق أو المغرب سينخرطون في جماعات إسلامية متطرفة قد تنزع في لحظات معينة إلى الإرهاب الصريح وذلك في العقد المقبل وستستمر أثار هذا السلوك، حسب الوثيقة، في العقود المقبلة.
ومن هذه النقطة وفي محاولة للعودة إلى تناول واقعنا العربي يطرح المؤلف مشكلات المشروع الحضاري العربي متسائلا عما إذا كان مشروعا يوتوبيا (مدينة فاضلة) مجيبا أنه حتى لو كان كذلك فهذه مسألة مشروعة ومقبولة لأنه في لحظات التحول التاريخي تظهر الحاجة في المجتمعات إلى صياغة يوتوبيات تحاول من خلال الخيال السياسي والسوسيولوجي رسم صورة للمستقبل وليس من الضرورة أن تعتمد هذه الصورة على معطيات الواقع بل إن اليوتوبيا بحسب التعريف يمكن أن تقفز فوق الواقع سعيا وراء رسم ملامح مستقبل مرغوب.
وعود على بدء يتطرق المؤلف إلى قضية الديمقراطية باعتبارها مفتاح الحل متسائلا عن إمكانية انبثاق الديمقراطية من نظام سلطوي. في نظرة بانورامية يقرر السيد ياسين أن الأنظمة العربية عامة تتسم بالشمولية مشيرا في الوقت ذاته إلى بعض إرهاصات التحول التي شهدتها مصر خاصة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي شهدت تنافس أكثر من مرشح على منصب الرئيس.
ويقرر المؤلف أنه إذا كان هناك إجماع عربي أن ما يجري في مصر من تحولات سياسية يؤثر بالضرورة على الوطن العربي كله فإنه يصح التساؤل هل يمثل النموذج المصري في الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية مثالا لباقي النظم السياسية العربية أن تحتذيه؟ منتهيا إلى أنه حانت لحظة العبور العربي للديمقراطية وأنه ليس علينا سوى أن ننتظر لنرى كيف ستستجيب النظم السياسية؟
وإن كان المؤلف يرى أن المؤشرات لا تبشر تماما في ضوء ما يقرره من أن محنة التحول الديمقراطي في العالم العربي متعددة فإذا كان هناك إجماع عالمي على أن عهد الثورات والانقلابات قد ولى وأننا نعيش في عصر الإصلاح بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن التحدي يكمن في أن معظم النظم السياسية العربية لن يجدي بصددها أي تغيرات جزئية بل لابد من تغيير طبيعة نظمها السياسية حتى يحدث التحول الديمقراطي.
ألفت عبدالله
*الكتاب: إعادة اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة
*الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2006
*الصفحات: 294 صفحة من القطع الكبير
