«التجربة، مصباح خافت لا يضيء سوى حامله» عبارة تترجم النهج الذي اعتمده الكاتب والطبيب الفرنسي في بناء شخوص رواياته. ويعتبر لويس فرديناند سيلين من أعظم كتاب القرن العشرين، وممن طوروا أسلوبا جديدا في الكتابة ساهم في تحديث الأدب الفرنسي والعالمي. ويبقى هذا الأديب محور جدال دائم بين النقاد والأكاديميين بسبب قناعاته السياسية ومواقفه خلال الحرب العالمية الثانية.
ولد سيلين في كوربيفوا في 27 مايو 1894، وتلقى الحد الأدنى من التعليم قبل التحاقه بالجيش الفرنسي. ونظرا لإصابته في الحرب فقد تم تسريحه من الجيش، وبعد انتهاء علاجه سافر إلى المستعمرات الفرنسية في افريقيا. وبعد الحرب عاد ليدرس الطب ومن ثم عمل في عصبة الأمم المتحدة قبل حصوله على منصب ثابت في باريس حيث بدأ بالكتابة في أوقات فراغه، ومن أهم أعماله الروائية التي رفعته مباشرة إلى مرتبة كبار الأدباء «رحلة إلى نهاية الليل» ونشرت عام 1932 حيث كسر من خلالها العديد من القواعد الأدبية مع عدم التردد في استخدام كلمات وعبارات فجة تصدم القارئ إلى جانب إدخاله للغة العامية في الحوارات، مع اعتماده أحيانا على جمل غير مترابطة بهدف احتواء مشاعر الإنسان في اللغة.
وبعد أربعة أعوام نشر روايته «الموت بالتقسيط» ملقيا الضوء من خلالها على معاناة الإنسان، وفي هذا العمل وصل بأسلوبه الأدبي إلى القمة. وابتداء من عام 1937 كتب ثلاثة منشورات على التوالي يناهض فيها فكرة الحرب والمجازر وكان آخرها عام 1941.
وعند دخول الحلفاء فرنسا فر لويس إلى ألمانيا بسبب تعاونه مع حكومة فيشي الفرنسية. ومن هناك توجه إلى الدنمارك وحكم عليه بالسجن لما يقارب من العام بسبب خيانته، ولم يتمكن من العودة إلى فرنسا إلا بعد إصدار قرار العفو عنه عام 1951.
وفي موطنه عاد إلى شهرته الأدبية وبقوة أكبر بعد نشره لثلاثيته، «القصر وقصر آخر» ونورد» و«ريغاردون»، والجدير بالذكر أنه توفي في اليوم التالي من كتابته للصفحة الأخيرة من روايته «ريغاردون» وكان ذلك في 1 يوليو 1961.
وقصة روايته «رحلة إلى نهاية الليل» لا تتحدث عن فكرة الهروب، بل تتناول كيفية التماشي مع الحياة وتقبلها». ويمكن القول بأن الرواية عمل فج يجلد القارئ بلغته، وأسوة بسارتر وكامو فهو يحكي كيف يفكر الإنسان بدافع ما يشعر به بعيدا عن التفاعل مع مواقف الآخرين.
ويبقى فرديناند بارمادو بطل الرواية، شخصية خارجية بسبب رفضه الانتماء إلى أية مجموعة أو أمة أو إيديولوجيا، لذا فقد كان قادرا على كشف نقاط الضعف والخداع لدى الآخرين بسهولة. تبدأ الرواية أو الرحلة من باريس، مع بداية الحرب العالمية الأولى حيث يتطوع بطلها الشاب الفرنسي بارمادو في جيش المشاة حينما تأخذه الحمية لدى مشاهدته للاستعراض العسكري،
لكنه سرعان ما يفقد حماسه حينما يصل إلى الصفوف الأولى من الجبهة. وتكمن إشكاليته في أنه غير قادر على فهم سبب مقاتلته للألمان الذين لم يسببوا له الأذى شخصيا، كما يدرك بعد حين بأنه بات في عيون رجال بلده جبانا.وفي إحدى المهمات يتعرف على روبنسون الصديق الذي يرتبط قدره به على الرغم من نفوره الدائم منه. وبعد إصابته في إحدى المعارك يعود إلى باريس للعلاج.
وفي المستشفى تنشأ بينه وبين الممرضة الأميركية المتطوعة والجميلة لولا علاقة حب، وحينما يعارض عودته إلى الجبهة تقطع لولا علاقتها به. ثم يتعرف على عازفة الكمان موسين التي تعمل في الترفيه عن الجنود والتي تتخلى بدورها عنه لذات الأسباب.
بعد شفائه يسافر برمادو إلى افريقيا، حيث يعيش في ملل قاتل إلى جانب معاناته من الحرارة الشديدة ومقته لبدائية السكان الأصليين. وهناك يلتقي روبنسون مجددا ويأخذ منصبه كمدير لشركة المطاط التجارية. وبعد إصابته بالملاريا والزحار يغادر على متن سفينة إسبانية إلى الولايات المتحدة.
وفي نيويورك يصاب بخيبة أمل جديدة حيث يجد الفقر والوحدة تحيطان به من كل جانب، ويكاد عمله في مصنع تجميع سيارات فورد يصيبه بالجنون بسبب رتابة عمل الآلات. وبعد لقائه بالغانية مولي التي تغرم به وتقدم له المساعدة والمال، يقرر العودة إلى باريس بدافع شغفه بالمغامرة.
وبعد متابعة دراسته وتخرجه كطبيب، يؤسس عيادته في حي رانسي الباريسي الفقير، وهناك يكشف بارمادو للقارئ عن مختلف أوجه البؤس. وفي ذلك الحي تربطه الصداقة بالزوجين هنرويل المتوسطي العمر. ويكتشف بعد حين تآمرهما مع روبنسون الذي يلتقي به مرة أخرى، بشأن قتله الجدة العجوز التي تعيش معهما وذلك للتمكن من تأجير غرفتها وزيادة دخلهما.
تفشل خطتهما بسبب رعونة روبنسون التي ترتد عليه لدى استخدامه للمتفجرات التي كان يزمع قتل العجوز بها، مما يفقده بصره بصورة آنية. يعتني برمادو بصديقه ويرتب ذهابه إلى تولوز برفقة العجوز للاعتناء به ولكتم السر.
وبعد موت أحد مرضاه يقرر إغلاق العيادة والذهاب إلى تولوز، ويفاجأ بالنجاح العملي لكل من روبنسون والعجوز، ثم يتعرف على خطيبة الصديق وتدعى ماديلون ولا يتردد في إقامة علاقة عابرة معها. وتنتهي الصداقة حينما يكتشف بأن روبنسون قد قتل العجوز للانفراد بالأرباح وعليه يقرر العودة إلى باريس مجددا.
وفي باريس يستقر في عمله الجديد في أحد المعاهد الطبية، إلا أن عودة روبنسون الذي يطلب إيواءه في المعهد تكدر استقراره النفسي، ويحاول بشتى الوسائل التخلص منه. وتبدأ المأساة حينما تهدد ماديلون روبنسون بإبلاغ الشرطة بقتله العجوز إن لم يوافق على الزواج منها.
وأمام إصرار ورفض روبنسون لتهديداتها، وبعد قضاء الثلاثة أمسيتهم في الخارج ولدى عودتهم في التاكسي، تخرج ماديلون المسدس وتطلق الرصاص على روبنسون لترديه قتيلا.
بعد رؤية برمادو لمقتل صديقه، يتساءل إن كان الصديق قد خطط لقتل نفسه منذ البداية، وفي رأيه فقد وجد روبنسون مخرجا سهلا لنفسه من الحرب ثم الحياة، ولدهشته يبدأ بالتساؤل بما الذي سيفعله في الحياة بعد موت الصديق.
