مؤلف هذا الكتاب هو عبد الله خليفة، الكاتب والروائي البحريني، له العديد من الأعمال الروائية والدراسات، منها: «ساعة ظهور الأرواح»، و«الأقلف» و«حورية العاشق»، و«سهرة» و«إضاءة لذاكرة وطن»، و«نشيد البحر» و«الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي».
وفي كتابه «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، يحاول خليفة تلمس ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة، وبجذور هذا الوعي الأولى، التي تمتد من مرحلة الجاهلية وظهور الإسلام، ثم تشكل الدولة الإسلامية، وصولاً إلى نهاية الدولة الأموية.
ويأمل في أن يحمل عمله رؤية جديدة إلى «الوعي العربي»، الذي بدأ في الظهور بصفة وثنية، ثم انحاز إلى الطبيعة الدينية التوحيدية، وهو أمر غير معزول عن إطاره التاريخي، وعن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها، جدلاً مع التاريخ، وحفراً في الحاضر.
هذا الموضوع الواسع، وغير المقيد، يتطلب التركيز على بنية فكرية واجتماعية واسعة وممتدة ومتحولة، تشمل جملة الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وعلى الخطوط العرضية لتطور الوعي الديني في مصر الفرعونية، لاكتشاف طبيعة النظام الاجتماعي التي كانت سائدة وقتئذ، وتبيان دور ذلك النظام الاجتماعي في التطور التاريخي.
ذلك أن الوعي العربي، بمعناها الإجرائي، ومن ثم تطوره اللاحق: الوعي الإسلامي، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصور القديمة، سواء عبر علاقته المباشرة، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان: الوثنية، واليهودية، والمسيحية.
لكن دراسة البنية الاجتماعية، عليها أن لا تجعل الباحث مأسوراً في طابعها التقني، أي اعتبار الوعي مجرد اتجاهاته فكرية وسياسية، بل يتوجب اعتباره علاقات حية، اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة.
وإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي المجتمع العربي الرعوي فلابد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه عبّر ـ من حيث الإتجاه ـ عن تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيطه وتمدينه.
وعليه تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة. علماً أن بين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
وفي العهد الراشدي كانت البنية السائدة تستند إلى ظهور ملكية الدول للأراضي العامة (الصوافي)، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وعليه يتوغل خليفة في دراسة في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، بحيث يقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي ـ الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة، من خلال قراءة عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة.
وتبيان طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها، وصولاً إلى دراسة التشكيلية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي استقر عليها. والمنطلق في ذلك هو أن تبعية الإنسان للطبيعة هنا وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه، كانت تقود إلى سيطرة القوى الماورائية المختلفة، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
غير أن إنسان العصور القديمة أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في عملية الإنتاج الروحي، كشكل أولي سحري من المثالية، أي عبّر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدر على السيطرة على الداخل الإنساني، سواء كان هذا الداخل تنظيما اجتماعيا أم أفكارا ومشاعر.
ويمكن القول أن المثالية أخذت صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية، حيث القوى الغريبة المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة، فتهندس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع القوى الطبيعية الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ .
لكن خليفة يعتبر أن الغيبية الدينية كانت الأم الأولى للمثالية، التي ستغدو المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد، والتي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود، ومرد اعتباره هذه الأفكار الغيبية نظرات وأفكار مثالية، هو إعطائها القوة الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية، الدور الأول في صياغة العالم.
لذلك اعتمدت الفلسفات المثالية، التي ستتشكل فيما بعد، على هذه الجذور الدينية والأسطورية، حيث تتراكم المعارف ويكتشف التجريد والتعميم النظري، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة. فضلاً عن أن هذه العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
والمعروف أنه في سياق التحول التاريخي للبشر، حدث تمايز بين شكلين من الوعي المثالي، الأديان ـ الأساطير والفلسفة، لكن حين تأقلمت الأخيرة في بلاد المشرق، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها، فقامت الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية، مثلما قامت الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
ويرى خليفة أن العلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الإشراف والفئات الوسطى، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما.
ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأولى الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الفئات الوسطى في مدن حرة، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الفئات الوسطى إلحاقها بالدولة وصعود طبقة ملاك العبيد.
إذن، يهتم خليفة بقراءة الجذور القديمة لتشكيل الوعي العربي في مرحلتيه، الوثنية والإسلامية، لكن السؤال يبقى حول إمكانية العثور على وعي غير الوعي الديني بمرحلتين وببنيتين، وعن المرحلة التي وضعت وصنعت القواعد الأساسية للوعي في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الإسلامي.
وبعيداً عن مثل هذه الأسئلة يبحث خليفة في الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي. ثم ينتقل إلى بحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت أنفسها تُأكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادي.
وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت إن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ومثل أي دين غدا الإسلام التأسيسي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية شاملة، فاتحد الفكري بجهاز الدولة الوليد، وغدت العبادات والمعاملات والغيبيات في كتلة واحدة، وكلها تستهدف عبر ترابطها العقيدي أن تنقل العرب من عالم المختلف والتفكك إلى حضارة.
ثم ظهر التفكير بالقدرة، والتاريخ العربي ـ الإسلامي يشكل أولى خطواته، وقد غدا هذا التاريخ هو موضوعه، وبدأ هذا التفكير أولياً مضطربا متسائلاً عن هذا القضاء المهيمن، وعن مدى حجم الإرادة فيه، ثم راح هذا التفكير الأولي بالنمو مع اتساع حجم الصراعات السياسية والاجتماعية .
وكان تشكل علم الكلام داخل الإطار الديني جعله محكوماً بالمقولات الدينية الأساسية، وبالفهم المحدد للعصر، باعتبار الوجود مخلوقاً بشكل كلي لله، سواء في ماضيه أم مستقبله، وبهذا فإن التاريخ الإسلامي نشأ من هذه الإرادة الكلية.
ومن هنا يستنتج خليفة أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية ـ السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على انقاضهم، بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة.
كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية، أن المعتزلة لم تكن لديهم فلسفة كونية شاملة، أي نظرة تشمل مختلف حيثيات الوجود، ونمت آراؤهم داخل تلافيف النص الديني، متأولين الجوانب الشديدة الغيبية أو الكثيرة الخوارق، وغير المعقولة، بشكل نسبي وعفوي.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني التي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث أن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم إن هذه المحاولات كانت تحوي رموزاً غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ولا يجهد خليفة نفسه في البحث والفلسفة ولا علم الكلام السابق عليها، إذ كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى: اليهودية والمسيحية، والتي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام.
وقد ساهم التعايش وبين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحثها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية.
وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في علم الكلام، أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة .
كما لا يعطي خليفة أية أهمية للفلسفة المشائية، حيث يعتبر الكندي الذي لقب بـ «فيلسوف العرب» أول العرب الذين اشتغلوا بـ «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين.
كذلك فإن الحكمة الصوفية والتصوف بشكل عام لا يجدان متسعاً من البحث، مع أن ظهور التصوف يعود إلى فجر الإسلام، وقد تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، فالتأمل الفلسفي. وظهرت في المرحلة الفلسفية للتصوف مدرستان أساسيتان، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي.
كل ذلك كان غائباً في «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» على حساب قراءة الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، وكشف حراك «الطبقات» وتحولات الأديان، وتحققات الوعي العربي، هذا الوعي الذي بقي يحلق في سماء خالية من المفاهيم، ولم يجد أرضاً يعيد عليها أقلمته.
عمر كوش
الكتاب: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005
الصفحات: 599 صفحة من القطع المتوس
