المشهد لا يبقى ثابتاً، بل ربما يتغير بسرعة، وإن بقيت عناصره واحدة فهو يختلف في التفاصيل. هكذا هي حكايات وجماليات الموانئ البحرية، التي لا تنفك تستقبل السفن من شتى أنحاء العالم، لأغراض متعددة.. سفن بأحجام وأشكال مختلفة، وتعود الى دول كثيرة.. لتبقى تلك الموانئ، بعراقتها،تدلل على أن التواصل بين أرجاء العالم، قديم، وأنها كانت تمثل أبرز منافذه.. كما بقيت في هذا السياق، تحتفظ ببعض الخصوصيات، رغم العديد من الاختلافات.
يعرف الميناء بأنه منشأة ساحلية تتكون من مرفأ أو أكثر، وتقام على شواطئ البحار أو المحيطات أو الأنهار أو البحيرات. وتجري في هذه المنشأة عمليات تفريغ وتحميل السفن بالبضائع أو الركاب. ولغوياً يجوز استخدام كلمة ميناء للإشارة إلى :الموانئ البحرية أو الجوية أي «المطارات» أو البرية «المعابر». ولكن في الأغلب يشار بها إلى الموانئ البحرية.
تحتوي الموانئ على معدات تفريغ وتحميل البضائع، مثل الرافعات التي يديرها عمال الشحن والتفريغ، وكذا الرافعات الشوكية التي تستخدم في تحميل السفن. وفي الكثير من الأحيان توجد مصانع التعليب أو مرافق معالجة أخرى بالقرب من الموانئ، كما تتوفر بعض القنوات التي تسمح للسفن بالحركة الداخلية، والوصول إلى وسائل النقل المختلفة، مثل القطارات والشاحنات، بحيث تسمح للركاب والبضائع بالخروج بشكل أسرع من الميناء.
أقدم الموانئ
يعتبر ميناء يافا في فلسطين، أحد أقدم الموانئ في العالم، إذ أنشئ بعد أن أسس الكنعانيون المدينة في الألف الرابع قبل الميلاد، لتصبح منذ ذلك التاريخ، مركزا تجاريا هاما في المنطقة، خاصة وأن يافا تحتل موقعا طبيعيا متميزا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، لذا أسهمت تلك العوامل الطبيعية في جعل هذا الموقع منيعا يشرف على طرق المواصلات والتجارة.
حيث بدأ ساحل فلسطين في تلك الفترة، يشهد توافد السكان الذين بدت لهم رابية يافا موقعاً جذاباً، فازدهرت المدينة عبر العصور القديمة، كما كان في عهد الفراعنة الذين احتلوها وعهد الحكم الأشوري والبابلي والفارسي، قبل الميلاد، وكانت صلتها مع الحضارة اليونانية وثيقة، ثم دخلت في حكم الرومان والبيزنطيين. وكان سكانها من أوائل من اعتنق المسيحية.
ومن أهم الأحداث التي شهدتها المدينة، نزول النبي يونس في شواطئها، في القرن الثامن قبل الميلاد، ليركب منها سفينة، قاصدا ترشيش. ولما دخل الفتح الإسلامي إلى فلسطين فتح عمرو بن العاص يافا، في العام نفسه الذي دخل فيه الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس. وظلت يافا تحتل هذه المكانة الهامة بين مدن فلسطين، وبقيت مركزاً تجارياً رئيسياً ومرفأ لبيت المقدس ومرسى للحجاج.
وكان ميناء يافا يخدم السفن منذ أكثر من 4000 عام. ولكن في الثالث من شهر نوفمبر عام 1965، أغلق ميناء يافا أمام السفن الكبيرة، وتم استخدام ميناء أشدود بديلاً عنه، ولا يزال الميناء يستقبل سفن الصيد الصغيرة والقوارب السياحية. ويجري في أراضي يافا الشمالية نهر العوجا ،على بعد 7 كم، وتمتد على جانبي النهر، بساتين الحمضيات التي جعلت من هذه البقعة متنزها محليا لسكان يافا، يؤمونه في عطل نهايات الأسبوع، وفي المناسبات والأعياد.
..الموانئ المفتوحة
في بقعة قريبة من ميناء يافا، على شاطئ المتوسط، عرف ميناء جبلة في سوريا كواحد من أقدم الموانئ المفتوحة على العالم الخارجي، وهو ميناء طبيعي وتاريخي أثري في آن واحد. وتحيط به مدينة جبلة القديمة، ويستخدم حالياً كميناء لقوارب صيد الأسماك .
وتشير الشواهد الأثرية الموجودة حول محيط الميناء، إلى أنه قد استخدم خلال الألفين الثانية والأولى قبل الميلاد، وأكبر دليل على ذلك مجاورة موقع المصيطبة للميناء، إذ أكدت التنقيبات أنه يعود إلى العصر الفينيقي، ولا تزال بعض الآثار القديمة ظاهرة في حوض الميناء، مثل وجود الأعمدة الغرانيتية المتناثرة في الحوض نفسه، وفي الرصيف الشمالي للميناء.
وتدل بعض الوثائق التاريخية المكتشفة، على أن رصيف ميناء جبلة، خضع لأعمال ترميم خلال العصور الوسطى. وأسفر البحث الميداني حول حوض الميناء، عن اكتشاف آثار سفينة غارقة عند مدخل الميناء، محملة بالأعمدة الغرانيتية وقواعدها، وخلال أعمال توسيع الميناء الحالي، عُثر على أجزاء من هذه الأعمدة، وعلى مجموعة من الكسر الفخارية التي تدل على النشاط التجاري الواسع لهذا الميناء، مع دول حوض المتوسط، منها: قبرص، اليونان، تونس، تركيا، إيطاليا، مصر.
ومن الموانئ القديمة أيضا، ميناء المكلا، والذي يعد أقدم ميناء على الساحل الشرقي لليمن.
وتشتهر المكلا بالفن المعماري الهندي، وكذلك بصيد الأسماك من أعماق البحار وتربية السلاحف والدلافين الراقصة في شواطئها البكر، ويوجد فيها حصن الغويزي الذي بني في عام 1884م، وهو يعد نموذجاً لجمال الفن المعماري في اليمن.
موانئ الإمارات
لا يوجد تاريخ دقيق يعرفنا بأقدم الموانئ في الإمارات، إلا أن ميناء الفجيرة يعد أكبرها، وفي أبوظبي عرف ميناء زايد، لكن في العقود القادمة سيصبح ميناء خليفة العمود الفقري لأنشطة موانئ أبوظبي، ولكن في الوقت ذاته ستبقى موانئ الإمارات الأصغر حجماً على القدر نفسه من الأهمية، بالنسبة لنظيراتها.
وتضم الامارات تسعة موانئ ومحطات، إلى جانب مراكز لتقديم الخدمات اللوجستية، إذ يوجد ميناءان في السلع، واحد للصيد وآخر تجاري، بالإضافة إلى ميناء متعدد الأغراض، من المقرر أن يتم تطويره على جزيرة دلما، والآخر المقرر إنشاؤه في صير بني ياس، فضلا عن ميناء المحرق الذي سيتم إعداده خصيصا ليلائم مرور سفن "الدحرجة":
أي "السفن المخصصة لنقل السيارات، وهناك ميناء المصفح الذي تمت إعادة افتتاحه، لتمر الشاحنات التجارية. وايضا، ميناء الشهامة الذي سيتمتع بحوض محمي وواجهة بحرية، إذ يتم تطويرهما حاليا. وبالنسبة لدبي، فإن اسمها يبرز عالميا في مجال إدارة الموانئ، من خلال" موانئ دبي العالمية"، وهي شركة متفرعة عن "شركة دبي العالمية "، الذراع الاستثمارية الدولية لحكومة دبي. وتعد" موانئ دبي العالمية".
واحدة من أكبر مشغلي الموانئ في العالم. وتأسست رسميا في العام 1999 م. وهي متخصصة في مجال المواصلات البحرية والبرية والجوية والخدمات اللوجيستية المتعلقة بهذه القطاعات، ويعمل فيها 97000 موظف حول العالم. وعندما أصبحت الشركة مملوكة لدبي في العام 2006، وعدت مذاك، من موانئ دبي، مع الإبقاء على مركز الشركة الرئيسي في لندن. وتدير "موانئ دبي"، حاليا، عدة موانئ حول العالم، كما أن للشركة مقرات إدارة لوجستية في لندن والإمارات.
مرافئ الفنون
الميناء من المفردات الهامة التي ذكرت في الأدب، لتحمل دلالات كثيرة لها علاقة بالانتظار، أو الإحساس بالأمان كون السفينة تكون آمنة من مخاطر البحر المجهولة وهي راسية على الميناء، أو قد يعبر الكتاب عن حياة مجتمع من خلال الحديث عن عمال الموانئ وغير ذلك الكثير، ومنها قصيدة الشاعر والناقد السعودي الراحل غازي القصيبي" الحب والموانئ السود"، التي قال فيها: الميناء الأول كنت بريئا ، أهوى الألعاب، ووقفت على هذا الميناء، فوجدت أمامي جمع ذئاب.
كما عنون الروائي العربي الشهير أمين معلوف، إحدى روايته ب:"موانئ الشرق". وهناك مجموعة قصصية للقاص زياد حديم، بعنوان: "صخب الموانئ". وايضا كتاب للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي بعنوان "موانئ زرتها"، اضافة الى عدة مؤلفات اخرى، منها: رواية للأديب العراقي إحسان وفيق، بعنوان "عبير الموانئ والتوابل البعيدة".
وقد تكون حياة البحارة، ومعها عمال الموانئ على اختلاف مهامهم، وجانب تعبهم المضني، وصراعاتهم المريرة، موضوعا لأحداث رواية بأكملها، وهذا ما تناوله الأديب السوري حنا مينه، في رواياته: الشراع والعاصفة، حكاية بحار، ونهاية رجل شجاع.
مراكبنا عالمينا
برزت الموانئ في مجال الأغاني، ومن أشهرها أغنية فيروز التي لحنها الأخوان رحباني، وتقول كلماتها:" مراكبنا ع المينا يا رجعة الصوراي، قلبي ناطر ع المينا وحبيبي مانو داري، ضحكتلك شواطينا يا مراكبنا الـ ع المينا". ومن الأغاني التي رصدت حياة البحارة الذين يرتبطون في النهاية بالموانئ، أغنية وديع الصافي التي تقول: "عندك بحرية يا ريس سمر وشرقية، يا ريس والبحر كويس يا ريس وصلني حبيبي يار يس، ريحة ارضيا عم بتنادينا من مينا لمينا".
وفي جانب فني آخر برزت الموانئ في الفن، ومنها ما يصور ميناء يافا القديم وهي لوحة استشراقية، ورسم لسفينة الانتقام وهي تغادر ميناء بورتسمارت، كما رصد بعض الفنانين تلك السفن التي لم تصل الميناء، مثل الفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا الذي رسم "غرق الميدوزا"، ومع تطوير التقنيات، رصد المصورون بعدساتهم، السفن وهي ترسو على صفحة البحر، بينما يتكسر ظلها، وذلك مع مشهد الأمواج المتحركة.
أكبر الموانئ
يعد ميناء الفجيرة، من أكبر الموانئ في دولة الإمارات، حيث بدأ العمل في بنائه العام 1978. وأما التشغيل الفعلي، فكان في العام 1983، ومنذ ذلك الحين، يعمل بصورة مستمرة، ويتميز بأن له رصيفا واحدا متواصلا، بطول 1.4 كيلومتر، وعمق 15 مترا. كما يتميز بأنه الميناء الوحيد المتعدد الأغراض على الساحل الشرقي لدولة الإمارات، خارج مضيق هرمز.
ويمثل مركزا لالتقاء الخطوط الملاحية بين الشرق والغرب، ومنفذا لأسواق شبه القارة الهندية وشرق أفريقيا. ويمتلك بنية تحتية ومقومات تؤهله للعب دور هام على المستوى المحلي والإقليمي، خاصة وأن رصيفه يستقبل سفن البضائع العامة والسائبة، كما يضم رصيفا لناقلات البترول، على الكاسر الشمالي الداخلي للحوض، والبالغ طوله 840 مترا.
واكتسب الميناء سمعة عالمية كبيرة، نظراً لأن الفجيرة أصبحت واحدة من أكبر مراكز التزود بوقود السفن، وتقديم الخدمات البحرية على مستوى العالم.
موانئ «روائية»
عنون الروائي العربي الشهير أمين معلوف، إحدى روايته ب:"موانئ الشرق". وهناك مجموعة قصصية للقاص زياد حديم، بعنوان: "صخب الموانئ". وايضا كتاب للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي بعنوان "موانئ زرتها"، اضافة الى عدة مؤلفات اخرى، منها: رواية للأديب العراقي إحسان وفيق، بعنوان "عبير الموانئ والتوابل البعيدة". وقد تكون حياة البحارة، ومعها عمال الموانئ على اختلاف مهامهم، وجانب تعبهم المضني، وصراعاتهم المريرة، موضوعا لأحداث رواية بأكملها، وهذا ما تناوله الأديب السوري حنا مينه، في رواياته: الشراع والعاصفة، حكاية بحار، ونهاية رجل شجاع.
