حكايات كثيرة في جعبتي، مستقاة من مصدر ثرّ، وهو حياتي المسرحية بتفاصيلها المتنوعة ووقائعها الفريدة والجميلة، والتي امتدت فترة زمنية طويلة شملت في محطاتها: العراق والإمارات، وأيضا مجموعة من الدول والأقطار الأخرى التي زرتها، إما للعرض أو للمشاهدة. ولا شك أن بعض القصص المخزونة في ذاكرتي، في هذا الصدد، يبدو أغرب من الخيال، حتى وإن كان قد حدث فعلاً.

 

من المعروف عن الفنان الإماراتي عبدالله صالح، التزامه الدقيق بالبروفات المسرحية.. ولا أذكر أنه، وطوال فترة عملنا سويا، تأخر عن أي منها، مهما كانت قساوة الظروف.. إنه فنان مجبول على الإخلاص للفن والتفاني في عمله بالمسرح. ولا أعتقد حتى، أن لديه متعة حياتية أخرى، أو خيارا في تفضيل حقل إبداعي سوى هذا المجال، والذي لا تتوقف حلقاته ومراحله، إلا مع نهاية العمر.

 فمادام المبدع المنتمي إلى شريحة العاملين في المسرح، يستطيع التنفس والتفكير، لا أظن أن شيئاً يمكن أن يكبله أو يعيقه عـــن متابعـــة نشاطاته، مهما كانت الظروف والمعوقات. فلا سن التقاعد ولا عملية إحالته إلى المعاش، بإمكانهمـــا إعلان هذا الأمر أو تحقيقه عملياً، طالما كان بمقدوره التحرك.

ولو عبر الاستعانة بكرسي متحرك (بعد أن يكون أصيب بعاهة مستديمة)، كما كانت حال الفنان إبراهيم جلال، في سنواتـــه الأخـــيرة، عقب أن بُترت ساقاه، إذ ظل يعمل في حقل الإخراج، رافضا أن تكبله إعاقته تلك، عن دوحة روعة عوالم الخشبة وتشويقها.

 

«إن شاء الله تقوم بالسلامة»

حكايات وقصص كثيرة لدي، عن ذكرياتي مع الفنان عبدالله صالح، غير أن حادثة بارزة من بينها، تبدو طافية أكثر على سطح الذاكرة، كونها ارتبطت لاحقاً بالشأن العام، بعد أن كانت خاصة تماما.. وتتلخص تفاصيل تلك الحكاية، بوقائع ما حدث أثناء البروفة قبل الأخيرة لمسرحية "طير السعد"، إذ وقف صالح أمامي، بينا كانت دقائق قليلة جدا تفصلنا عن موعد بدء البروفة شبه النهائية، فعرفت فورا.

ومن قراءتي تعابير وجهه، أنه في موقف لا يحسد عليه، بفعل ظروف ومواقف قاهرة تعترضه، وربما أنه يصعب عليه تعريفي بها، وعندما تحدثت إليه بهذا الخصوص، محاولا التعرف على طبيعة المشكلة التي تواجهه، بادرني:

"زوجتي في المستشفى، وهي على وشك الولادة". فأجبته ببرود مصطنع: "إن شاء الله تقوم بالسلامة". ولم يتأخر في رده، حينها: "لكن يا أستاذ.. ممكن ما أحضر البروفة وأروح أحضر الولادة؟ .. يمكن يحتاجوني، لا سمح الله.. وتعرف هاي أول ولادة.. وتعرف إني أتقنت الدور جيداً".

 

لا للعواطف

شعرت، وأنا في ذلك الموقف، أن حالة الألم التي تتملك عبدالله صالح، آنذاك، أخذت تنتشر في جسدي شخصيا، وأحسست حتى بأنها بلغت كبدي وفؤادي بسرعة، فهو، كصديق وممثل، من الأشخاص الرائعين الذين أحبهم جدا، وطالما اعتبرته بمثابة الأخ الأصغر لي، ولكنني وقعت في حيرة وربكة كبيرتين، لحظتها، فأمامي واجب مهني جوهري، يقتضي مني ومن الفنانين.

وتحت ضغط أي من الظروف القسرية أو الطارئة، ترسيخ ثوابت قيم مسرحية محورية، عبر البروفات النهائية، هي فعليا، أهم من العرض. وهنا، وفي حكم تلك الاعتبارات، أجبت عبدالله صالح: "هذه البروفة مهمة جداً، كما تعلم، ولابد من وجودك فيها، وأنت تعرف أنني لا أحب البروفات العرجاء".

لم يجادلني صالح.. إنما اتجه إلى كواليس المسرح، وشرع في تبديل ملابسه، ومن ثم برز على الخشبة وبدأ، بعد أن وقف مع فريق الممثلين، تأدية إشارة العرض بشكل سليم وحرفي، بدا خلاله، وكأنه غير مسكون بأي من أوجه القلق أو الهم والتوجس، أو أيضا، الترقب والخوف، ذلك نظراً لتخميناته وحسبانه بشأن الحالة الصحية لزوجته التي كانت ترقد، حينها، في المستشفى، منتظرة قدوم مولودها.

وطبعا، لم أندهش أو استغرب، حينها، لما قدمه صالح من أداء متقن، ليقيني انه فنان قدير يعرف كيف يفصل بين ذاته والواقع المحيط به، ومن ثم يستطيع أن يمنع تأثير أي من المواقف أو الأزمات، على مستوى حرفيته. وبذا فهو قادر دوما، على ان يعيش الدور كما ينبغي، ولا طبقا لما تفرضه أو تمليه الظروف.

أنهى عبدالله صالح البروفة كاملة بشكل حرفي متميز .. ثم ودعني، وغادر مسرعاً إلى المستشفى حيث كانت زوجته. وفي اليوم التالي، أقبل علينا باشا، فوقف أمامي والفرحة تنشر ملامحها على صفحة وجهه، فقال:" جاءني ولد ...". وحينذاك، انطلقت حناجر أعضاء فريق العمل، وكأنها صوت واحد:"مبروك يا عبدالله".

ورد هو: "سميته مروان". تدور السنوات .. ويمر الزمن سريعاً كالبرق. ويقدر لي أن أبقى حياً لأعايش جيل مروان عبدالله صالح المبدع، وكذلك لأتمتع بما أنجزه ابناؤنا هؤلاء (مروان والشباب المبدع من مجايليه)، على الخشبة، بعد أن أخذوا مواقعهم تحت الشمس، وبدؤوا يرسمون خيوط وتوزيعات رؤى تجربتهم الإبداعية.

وشدني كثيرا، أحد العروض لمروان. إذ شعرت وأنا أتابع العمل، بسمو وفرح، لحظة ظهر مروان وهو يؤنب زملاءه، مذكراً إياهم (بزمن عبدالإله)، كما سماه، مشيراً من خلال ذلك، إلى اعتزازه بالقيم التي رسخناها نحن كجيل مؤسس، إذ يجد، طبقا لعباراته، تلك اللحظة، قيمة أخلاقية وفنية، وقانونا يحكم ويضبط منهج الفنان ويسيّره في مشوار عطائه، سواء خارج صومعته الفنية أو في داخلها. فالمسرح بلا قيم هو مجرد عروض سرعان ما تنسى.

لم يكن الفنان عبدالله صالح الوحيد الذي تميز بصدق التزاماته وإخلاصه في العمل، فجُلّ من عملت وإياهم، كان بالفعل نموذجا رائعا في المسؤولية والتعاون والإبداع.. وأذكر في هذا الإطار الفنانة مريم سلطان، أم المسرح في الإمارات وصاحبة القلب الكبير، والتي اتسمت تجربتها بعمق الجذور والنضج.

كما تميزت مريم سلطان، بأنها اختارت المسرح وبقيت لا تعرف العيش إلا في عوالمه ومعها، رافضة أن تحيد عن خط جديته وقيمه، حتى ولو أنها لم تكسب منه سوى التعب والمعاناة، ولكنها أصرت على جعله متنفسها ومحرك حياتها، وذلك دون ان تصاب بلوثة الدلال الذي يعيشه فنانو اليوم.

لم يكن للفنانة مريم سلطان دور في مسرحية "طير السعد"، إلا أن الممثلة المشاركة فيها، غابت عدة أيام، فكان لابد من الاستغناء عنها، وبناء عليه، اختيرت مريم سلطان لتأدية الدور نفسه في المسرحية، إلا أن الإشكالية التي اعترضتنا، آنذاك، وطبعا كنا نعرفها، حتى قبل أن تبدأ البروفات، هي أن أم عادل كانت قد تعرضت إلى حادث أدى إلى دخولها مستشفى الكويتي القديم في الفشت في الشارقة، إذ أصيبت بكسور عديدة، ولم يكن يُسمح لها بالحركة.

اقترح الفنان سيف الغانم، أن نزور مريم سلطان في مستشفى الكويتي، وذلك للتعرف على حالتها الصحية، دون أن نعرض عليها ماهية الإشكالية التي تواجهنا في تلك المسرحية، أو أن ندعوها إلى المشاركة فيها. ووجدناها، خلال زيارتنا تلك، في حالة صحية ليست بالجيدة، ولكن أيضا، غير سيئة، إذ تجاوزت مرحلة الخطورة. وكان العائق الوحيد، أنها لا تزال تخضع للعلاج، وليس بمقدورها التحرك إلا باستخدام عكازين، وبمساعدة إضافية لتستطيع أن تسير، تتمثل في تعضيد ابنتها لها.

جلسنا على السرير الخاص بالفنانة مريم سلطان في المستشفى، وشرعنا نحادثها ونسليها، عارضين لها طبيعة الأنشطة المسرحية الجارية، وكانت تتجاوب معنا في حواراتنا ونقاشاتنا وتساؤلاتنا، وأخذت تبادرنا بالسؤال عن ما أنجزناه من مراحل في مسرحية "طير السعد". وحينها، في سياق الحديث، أخبرناها أننا استغنينا عن الممثلة المشاركة في المسرحية، بفعل غيابها المتكرر.

وهنا، عرفت مريم أن الدور لا يزال شاغرا، ولم يسند إلى أي فنانة أخرى، فأبدت استعدادها للمشاركة بالمسرحية، وتأدية ذاك الدور. إلا أنني رفضت بدافع ومبرر عدم أهلية حالتها الصحية، معرباً عن رأيي في ضرورة أن لا تفكر هي أو نفعل نحن، في ذلك الأمر، مؤكدا أنه يجدر بها فقط، أن تحرص على استكمال العلاج، وأن تعتني بإراحة ساقيها وعدم الاتكاء عليهما، كي تجبر الكسور فيهما، ومن ثم تتوافر أسبــاب تعافيها، بشكل كامل.

تركنا أم عادل في المستشفى مساء ذلك اليوم، دون ان نزيد أو نغيّر في مضمون حديثنا وقرارنا ببقائها بعيدة عن المشاركة في المسرحية، كي تتفرغ للعلاج تماما.. ولكننا فوجئنا، في اليوم الثاني، وتحديدا خلال موعد الساعة المخصصة للبروفة، بدخول مريم سلطان، وهي مستندة إلى عكازيها، قاعة افريقيا في الشارقة.

وبادرتنا فورا، وبإصرار، بطلب إشراكها في المسرحية، معلنة هروبها من المستشفى، بعد أن رفض الطبيب السماح لها مغادرته بشكل قانوني. وكانت فرحتنا كبيرة، حينها، لا لأنها فقط ساعدتنا على حل إشكالية الدور الشاغر، وإنما لما جسدته وعكسته في موقفها هذا، من قيمة أخلاقية وفنية فريدة تتمتع بها.

فأحضرنا لها كرسيا متحركا لتستعمله في مشاركتهـــا بالبروفات على الخشبة، وذلك إلى أن تتماثل للشفاء، رويدا رويدا، بحيث يصبح بمقدورها، المشاركة في العرص، خلال ذلك، ومع تعافيها الجزئي. مثّلت مريم سلطان، نموذج الفنانة الرائعة والمميزة، كعادتها.

وذلك ليس في فنها فقط، بل في جملة ما تحمله هذه الإنسانة، من نقاء وأخلاق وتسامح وشفافية. وكذا في مضمون مخزون منجزاتها في المسرح الاماراتي، عبر تاريخها الطويل، منذ سنوات التأسيس الأولى.. إنها امرأة عصامية تحدت عقبات كثيرة، ولم تسمح للحواجز والعقبات أن تكبلها أو تؤطر نجاحاتها.

 

الحكاية تجر الأخرى

كان فريق العمل المسرحي الذي اخترتـــه للمشاركة في مسرحية حكايتي: "الرجل الذي صار كلباً" و"بانجيتــو"، لأوزفالد أركون (ترجمة الراحل قاسم محمد)، محدوداً. وضم: عبدالله مفتـــاح، سيف الغانم، أحمد الجسمي. ولكن اعترضتنا مشكلة، منذ بدايات رغبتنا في مباشرة العمل، تمثلت في حاجتنا إلى العنصر الرابع: الممثلة.

ووصلنا في هذا السياق إلى مرحلة اليأس بعد أن استحال علينا تأمين ممثلة تليـــق بهذه المسرحية، بمعنـــى أن يكون لديها مستوى أهلية مميز، إذ ستقـــوم بتأديــــة أكثر من عشرة أدوار، وكان هـــذا يصعب توافـــره جداً لدى الفنانات، في تلك الآونة (الثمانينـــات من القرن الماضي)، في ظــــل واقـــع الخيارات المحـــدودة والضيقة بالنسبة للعنصر النسائي.

لم يتأخر سيف الغانم، حينها، وكعادته، في المسارعة إلى تقديم مقترحات حلول، فرشح الفنانة أمينة القفاص لتلك المهمة، وسارعنا إلى الاتصال بها في البحرين، فلم نجدها. ومن ثم فوجئنا، عقبها، بوجودها في أحد المستشفيات في دولة الكويت، حيث تمضي فترة نقاهة وعلاج، بعد أن أجريت لها عملية جراحية. وهكذا، فقدنا الأمل بقدرتنا على ضمان مشاركتها في المسرحية.

وخلال تلك الأوقات الحرجة، والتي كنا وصلنا معها إلى طريق مسدودة، كانت الحلول كافة، تهيأت وغدت مضمونة وناضجة في تلك المكالمة الهاتفية الفجائية من الكويت، التي تلقتها إدارة مسرح الشارقة الوطني، فالمتصلة هي أمينة القفاص نفسها، هاتفتنا لتعلن عن استعدادها تلبية دعوتنا والمشاركة في المسرحية.

ولكننا، في مسرح الشارقة الوطني، أجبناها برفضنا ذلك، رغبة منا في أن تتفرغ تماما للعلاج، وكي لا تتعرض إلى أية احتمالات انتكاس بفعل مشاركتها بالمسرحية، خصوصا وأنها لا تزال تتلقى العلاج..

وهكذا عدنا إلى المربع الاول. ولكن فصول حيرتنا وخيبتنا، آنذاك، لم تطل كثيرا، إذ فوجئنا، بعد 24 ساعة، بأن أم أحمد وصلت مطار الشارقة، فأسرع سيف الغانم إلى استقبالها وترتيب إجراءات إقامتها في أحد الفنادق. ومن ثم فاجـــأت الجميع، إثرها، عندما دخلت المعسكر الفني الذي اقمته خصيصا لبروفات تلك المسرحية.. وطبعا كانت أمينة القفاص، قد هربت هي الأخرى من المستشفى، ولكنها أخذت معها أدويتها ووصفاتها الطبية العديدة.

هؤلاء فعلاً، لم يمثلوا مسرحيات فحسب، فهم رسخوا مجموعة قيم وأخلاق فنية عالية.. كما برهنوا على صدق انتماءاتهم إلى المسرح وعمق حبهم له.. إنهم أعلام في تاريخ المسرح الإماراتي. وربما أن حكاياتهـــم لن نقدر أن نوفيها حقها عبر تسجيلها في قيود تاريخ تقليـــدي، ولكن هذه القصص هي تشويق مرويات، تحكى وتقدم على هامش التاريخ، وطبعا، هي الأجمل في جملة ومجمل ما يحمله التاريخ من عبق ومثل.

 

المسرح أولا.. وأخيراً

تحضرني حكاية أخرى، هي من مسار ومضمون تجربتي المسرحية في العراق، ولا أزال أنظر إليها بشيء من الاعتزاز، إذ كنا نعــرض مسرحيــــة "المهزلة الأرضية"، للدكتـــور يوسف إدريس، وذلك تقريبا في العام 1970.. وكان يشارك معنا في العمل، الفنان العراقي إبراهيم أبو الهيـــل، بدور رئيس. وذات ليلة، قبل موعد العرض بنصف ساعة، اكتشفنا أن أبو الهيل.

وعــلى غير عادته، لم يصل بعد إلى المسرح، وهذا كان مستغربا جدا، لأنه معروف بمدى التزامـــه ودقة مواعيده.. وبعد انتظار وقلق وترقب، رنّ الهاتف في مقـــر المسرح، وحين رفعت السماعة، وإذا به أبو الهيل يبادرني بخبر محزن ومربك تماما، مفاده أنه اضطر إلى التأخــر ومن ثم عدم الحضور، بفعل وفاة عمه، الذي يسكن معه في المنزل نفسه، إذ كان أسعفـــه قبل أن يغادر إلى المسرح، بعد شعـــوره بنوبــة قلبيــــــة، فنقلـــه إلى المستشفى الجمهـــوري، ولكنه ما إن استلقى على السرير، حتى لبى نداء ربـــه وتوفي..

وكان يخبرني بذلك من خلال الهاتف، واصفــــا لي، في كل لحظة، كيف أنه متخبـــط في أفكاره وخياراتـــه، ويعيـــش حالـــة صراع مريرة، إزاء هذا الموقف، فهو محتار بين ضرورة قيامه بدوره في العرض المسرحي، وبالمقابل، ما تمليه عليه الأعراف والتقاليد والقيم، إزاء وفاة عمه، من واجبـــات واشتراطات يجب أن يقوم بها.. ولم أتردد أبداً لأزيـــل متاهة تلك الحالة، فخاطبته بقسوة شديدة، طالبـــا منه ترك الجثمان في المستشفى، والقدوم إلى المسرح ليـــؤدي دوره في المسرحية، ومن ثم يخبر أهلــه وذويه، عقبها، بوفـــاة عمه، ويقوم بما يتطلبه الأمر.

وصل إبراهيـــم أبو الهيل المسرح، بعد أن استمع إلى حديثي عبر الهاتف دون أن يناقشني أو يبدي اعتراضا.. وباشر، بصمت تام، تبديل ملابسه ووضــع ماكياجه. وتقـــدم إلى الخشبة بكل ثقة واقتدار، فشارك في العرض المسرحي، وكم كانت سخرية القدر حينها، إذ كان ذاك الدور الذي يؤديه، كوميدياً. ولكن اللافت أنه أداه ببراعة.

ولم يستسلــم لحزنه على وفاة عمه، وأيضا لتفكيره بما كان يتوجب عليه أن يقوم به. فأضحــــك الناس وأمتعهـــم، متغلبا على حرقتـــه وعلى سعير النار الذي يضطرم في داخله: إنسان مكلوم حزين، يمثل دوراً ضاحكاً. وبعد عرض المسرحية، أسرع إبراهيم إلى أهله، لينبئهم بالخبر.

هكذا إذاً.. مات العم، ولكن حكاية إبراهيـــم أبو الهيــــل، ظلت حية بيننا، نحن الذيـــن عايشنا تلك المرحلـــة من مراحل المسرح العراقي، حين كان يهتم بالإبداع، دون أن يهمل بناء القيمة الفنية والأخلاق المسرحية، وجـــعل المسرح فوق كل الصعوبات، بما في ذلك الولادة والمـــوت.. وكـــان مثلنا مسرح البولشـــوي، الذي لا يجيز غـــياب الفنان، إلا بسبب الموت. رحم الله أيام زمـــان.. وطوبى لجميع الفنانين الذين أسسوا هذا المسرح الجميل.