يقول العالم الانجليزي الراحل تشارلز داروين : ليس المهم أن تكون الأقوى أو الأكثر ذكاء، بل الأقدر على التأقلم مع التغيرات. ان عواصف الربيع العربي، التي شهدها العالم، خلال العام الماضي، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم، لم تحدث تغييرات جذرية في مصير الشعوب فقط، بل أثرت أيضا بشكل كبير وواضح، على صناعة الصحف، كما ظهرت، معها وبفعل جملة تأثيرات وعوامل اخرى اضافية، أشكال جديدة للصحافة، تطورت خلال العام الماضي بوتيرة متزايدة.
لعل الثورة الإعلامية التي جاءت عبر الهواتف النقالة والانترنت والوسائط المتعددة، إلى منطقة الشرق الاوسط، شكلت نقطة تحول في الإعلام الذي كان قاصرا على القنوات الفضائية والجرائد والإذاعات، وكذلك دفعت الكثير من الخبراء باتجاه تشجيع الدمج بين الصحافة الورقية والإلكترونية، بغرض ضمان استمرارها، خاصة بعد أن أظهرت أحدث الإحصاءات، أن عدد مستخدمي الانترنت، تعدى ملياري شخص.
تقول الاعلامية منتهى الرمحي، مقدمة برامج في قناة «العربية» التلفزيونية: "تتميز الصحافة المطبوعة باستقطابها لكتاب معروفين وصحافيين ذوي كفاءة ومصداقية، وأنا من عشاق قراءة الصحف اليومية المطبوعة، فضلاً عن انني أفضل الجلوس أمام كتاب ما، على التحديق بشاشة الموبايل أو الكمبيوتر لقراءة الأخبار. وأعتقد أن التفكير بإمكانية اندثار الصحافة المطبوعة امر لا يزال مبكراً، لاسيما وأن لها زبائنها ومحبيها.
وتابعت: "يشكل النشر الإلكتروني خطراً كبيراً على الصحافة المطبوعة بلا شك، نظراً لسهولة الأخبار وسرعة تدفقها، إضافة إلى توفرها على الهواتف المتحركة بأنواعها، الأمر الذي جعل الناس يعزفون عن شراء الصحف والمجلات لقراءتها، وأرى أن سعي الصحافة المطبوعة للابتكار والتجديد ومواكبة التطور التكنولوجي، السبيل الوحيد أمامها للخروج من هذا المأزق".
60 ساعة
من جهتها، تقول مها عبد الرحيم أبو العينين، رئيسة قسم التواصل والعلاقات العامة لموقع غوغل، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: تلعب شبكة الإنترنت دورا كبيرا في حياتنا، لأنها لم تعد مصدرا للمعلومات والتسلية فقط، بل أصبحت حلقة وصل بين الناس أيضا، ونحن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحنا أكثر احتكاكا بأصدقائنا وأقاربنا وجيراننا. وتعطشا للمعرفة واكتساب العلم.
وكذا جرأة في طرح أفكارنا ووجهات نظرنا، خاصة بعد الربيع العربي. وتضيف مها عبد الرحيم أبو العينين: يحرص الأفراد على التواصل مع بعضهم البعض، عبر (تويتر) والـ(فيس بوك)، حتى يكونوا على علم بكل ما يحدث في جميع أنحاء، فهناك نحو 60 ساعة يتم تحميلها كل دقيقة، وساعة فيديو كل ثانية، وسبعة آلاف رسالة يتم إرسالها كل دقيقة على الـ(فيس بوك).
وأكثر من 175 ألف رسالة (تويت) يتم تبادلها في الدقيقة الواحدة، وهذا مؤشر قوي وواضح، على كم التحديات الذي تواجهه مؤسسات الأخبار في العالم. وتستطرد : الحل الوحيد أمام الصحافة الورقية، هو مواكبة التطور الرقمي السريع، وأنا أشجع الدمج بين الصحافة الورقية والإلكترونية، لأن ذلك سيصب في مصلحة الصحافة الورقية بالدرجة الأولى.
حيث ستتمكن من جذب أكبر عدد من الأشخاص الذين يتمنون أن يكون صوتهم مسموعا، من خلال التواصل معهم عبر وسائل تكنولوجية جديدة وفريدة من نوعها، بالإضافة إلى أنها بهذا ستتمكن من طرح الأخبار بسرعة أكبر وبشكل مباشر، ما سيرفع درجة رضا الجمهور عنها، ويبعدها عن التفكير الدائم بمخاض البقاء، فما لا يعرفه كثيرون مثلاً، هو أن الجمهور كان على علم بخبر وفاة ويتني هيوستن، قبل 27 دقيقة من وصوله للصحف.
تجربة مصرية
ترى لينا عطا الله، مدير التحرير التنفيذي في جريدة المصري اليوم، أن لا غنى للجمهور عن الصحف الورقية والإلكترونية، في الوقت نفسه. ذلك لأن الأولى موضع ثقة أكثر بالنسبة له، أما الثانية فالأسرع من ناحية نشر الأخبار ونقل الأحداث. وتشرح رأيها بهذا الصدد: انطلقت جريدة (المصري اليوم) في البداية، كجريدة إلكترونية. وقد حازت رضا الجمهور.
لأنها تميزت بمصداقيتها وموضوعيتها، مقارنة بالصحف الإلكترونية الأخرى، ثم فكرنا بالانتقال الى المطبوع، كي يحظى المحتوى الذي نقدمه، بالانتشار، وبعد سنتين من النجاح، توقفنا كصحيفة مطبوعة، لأن النظام السياسي المصري لم يكن راضيا عن المحتوى الذي نقدمه.
وتؤكد لينا عطا الله، ضرورة تفاعل الصحافة المطبوعة مع الانترنت، بشكل إبداعي، حتى تبقي على زبائنها كصحيفة تقليدية وإلكترونية، في آن واحد. وهي تقول في هذا الشأن : تحول الصحافة التقليدية إلى الوسائط المتعددة، يضمن لها الاستمرارية ومصادر دخل جديدة.
تجربة سويسرية
وفي الإطار نفسه، يقول باسكال زيمب، مدير مشروع التطوير التكنولوجي للقيادة في شركة رينجر إيه جي في زيوريخ في سويسرا: يجب أخذ احتياجات القراء بعين الاعتبار، فجمهور وسائل الإعلام تغير خلال السنوات العشر الأخيرة، الأمر الذي زاد من جرعة متطلبات هذا الجمهور، والذي راح يهاجر باتجاه الأحداث، وأصبح لديه إمكانية الوصول إلى الخبر، عن طريق الهاتف المحمول والكمبيوتر والانترنت.
و(الآي فون) و(الآي باد). ويشرح باسكال زيمب، آليات عمل (بليك): تشتغل مجموعة (بليك) على قنوات أربع، بعد أن تمكنت من الجمع، تحت سقف واحد بين تلك الوسائل المتمثلة في صحيفة (تابليوت) والصحيفة اليومية أجهزة (آبل) و (الآي باد)، فضلاً عن صحيفة أخرى مجانية، حيث يبلغ عدد العاملين فيها 270 محررا، وهم من مختلف الاختصاصات الورقية والإلكترونية بما في ذلك الهاتف الجوال، ويقوم رؤساء الأقسام بتحليل المحتوى الصحافي في اجتماعاتهم اليومية.
تجربة أردنية
ومن جهتها، تشدد لارا أيوب، مديرة النشر الإلكتروني في صحيفة الغد الأردنية، على أهمية المزاوجة، بين الصحافة المطبوعة والصحافة الرقمية، خاصة بعد أن كان العاملون في حقل الصحافة المكتوبة، يعتقدون أنهم محصنون ضد خطر البقاء، وأصبحوا، اليوم، يتحدثون بشكل دائم عن مخاض البقاء بعد الثورات..
لا يقتصر دور الانترنت، حاليا، على أنه مصدر للمعلومات، زاخر بكم كبير من الأبحاث والدراسات القيمة، بل يتجاوز ذلك إلى تأمين معظم الإصدارات الحديثة، من كتب ومجلات وبرامج تعليمية، وحتى قنوات تلفزيونية، وهذا بدوره يقودنا إلى أمر مهم.
وهو قدرة الانترنت على جذب شريحة الشباب واستقطابها، لذا أرى أنه من المهم تقديم أفضل محتوى صحافي، مع الإبقاء على الوجود عبر الوسائط الإعلامية المتعددة والجديدة، وفق معايير جودة وتميز المحتوى. وتتابع لارا أيوب، ان هناك الكثير من الفرص لتطور الصحف محتواها الإلكتروني على الانترنت، فالوسائط المتعددة لا تمثل تهديدا، وإنما هي فرصة لتطوير الصحافة التقليدية، ورفع عادات القراءة لدى الشباب.
كما تحدثت مديرة النشر الإلكتروني في صحيفة الغد الأردنية، عن أهم الوسائل الناجحة في خلق بيئة قائمة على الثقة والتعاون بين وسائل الإعلام وجمهور المتلقين، مبينة أهمية دمج الشباب في وسائل الإعلام والاهتمام بهم، من خلال ملامسة همومهم ومعرفة مصادر قلقهم، فضلاً عن إتاحة الفرصة أمامهم كي يتعرفوا على العاملين في تلك الوسائل.
تجربة كويتية
وعلى صعيد آخر، تؤكد الشيخة انتصار سالم العلي الصباح، أن جميع وسائل الإعلام ستتطور مع الوقت، رغما عنها، وذلك حتى تظل على اتصال دائم بالمجتمع والعالم، مشيرة في الوقت ذاته، إلى أن انجذاب الشباب في جميع أنحاء العالم نحو الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، سيقل تدريجياً مع مرور الوقت وتضيف: ثقة الكويتيين بالصحافة التقليدية، أكبر من ثقتهم بالصحافة الإلكترونية التي تعتمد على المبادرات السريعة، والشباب في جميع أنحاء العالم ينجذبون نحو مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها ذات إيقاع معلوماتي سريع، ولكن عندما سيبلغون سن الثلاثين، سينضجون أكثر، وسيتجهون نحو الصحافة الكلاسيكية.
وحول دعم الحكومة الكويتية للصحف الورقية، تقول انتصار سالم العلي الصباح: يعمل معظم القوى العاملة الكويتية، في القطاع الحكومي الذي يوفر لهم الصحف مجانا، بشكل يومي، ما يدفعهم لتخصيص جزء من وقتهم لقراءتها، خاصة و.
أن خدمة (الأون لاين) غير متوفرة خلال وقت العمل الرسمي، وهذه خطوة إيجابية تبقي على الصحافة المكتوبة وتحفظ لها مكانتها، فضلاً عن أنها تُباع للحكومة بسعر هو ضعف السعر الفردي، والحكومة مضطرة الى شرائها لسبب مهم، لتغير ثقافة أفراد المجتمع وتعودهم على قراءة الصحف، وليس كما يظن البعض، أنها تريد إيصال صوتها ورأيها واتجاهاتها الى الكويتيين.... وحول ما إذا كانت خائفة على مستقبل الصحافة المطبوعة، تقول: لست قلقلة طالما أن الكتب لا تزال موجودة في المدارس والجامعات، وأعتقد أن أفضل طريقة للاحتفاظ بالقراء، تقديم أفضل محتوى صحافي.
غرف الأخبار
يدوره، يتمنى راندي كوفينجتون، مدير مركز نيوز بلكس للتدريب في جامعة ولاية كارولينا الجنوبية، في الولايات المتحدة الأميركية، أن يتم التركيز على تطوير المحتوى الذي تقدمه الصحافة المطبوعة، بدلا من إضاعة الوقت في التفكير فيما إذا كان الزوال هو مصير الصحافة الكلاسيكية مع مرور الوقت أم لا، ويضيف: يعد تميز المحتوى الذي تقدمه الصحف الورقية، سبيلها الوحيد للبقاء.
وكلما تطورت غرف الأخبار أصبح أملها في جذب أكبر عدد من القراء أكبر، وأرى أن التأخر في عملية التطوير والتحديث لن يكون في صالحها. وأود الاشارة هنا الى ان صالات الأخبار المفتوحة، تنتج عملا صحافيا قويا ومؤثرا، ذلك لأنها ستحفز الصحافيين وتساعدهم على صب انتباههم وتركيزهم في العمل، بدلا من إضاعة الوقت في تبادل الأحاديث الجانبية والتعليقات التي ليس لها فائدة.
كما ستمكن الإداريين ورؤساء الأقسام، من معرفة الأفراد المنتجين والمجتهدين. ويشدد كوفينجتون على ضرورة تدريب الصحافيين، على كيفية صياغة الأخبار وتطوير أدواتهم ولغة الخطاب التي يستخدمونها، لافتا إلى أن العالم يتطور باستمرار.
وأن شبابنا متعطشون للمعرفة، ويتابع في هذا الخصوص: يقرأ الجمهور كل شيء، وصياغة الأخبار التي يقرؤها أفراده، في صحيفة معينة أو موقع إلكتروني معين، هي التي تحدد علاقته بهذه الصحيفة أو ذاك الموقع الإلكتروني، ومدى ثقته فيها وبالمضمون التي تقدمه.. إن الفكر المبدع هو المتجدد الذي لا يحصر نفسه في قالب واحد جامد، وإنما يبقى دائما في عملية ابتكار متكررة، يسعى من خلالها الشباب، الى إيجاد حضور فعّال وبصمة خاصة بهم.
سمات ومفاضلة
ويرى الصحافي عمر رشوان، أنه لا يوجد اختراع في البشرية يفنى، ولكن أيا منها يقل نسبياً، أو يزداد التعامل معه باشكال متنوعة، ومن ضمن ذلك النشر الإلكتروني الذي يمثل امتدادا للصحف المطبوعة، ويجب علينا أن نركز عليه، لاسيما أن هناك متابعة كبيرة له من قبل فئة الشباب الذين يفضلون خوض غمار المعرفة والاطلاع في هذه العوالم. ويضيف:
"من الخطأ أن نحارب تحول الصحف المطبوعة إلى إلكترونية لمجرد تعلقنا العاطفي بها، فالنشر الإلكتروني يوفر سهولة وسرعة الوصول الى الجمهور، مع إمكانية التفاعل مع آرائهم وملاحظاتهم بشكل آنٍ. ونجد أن الصحف والمجلات المطبوعة التي واكبت التكنولوجيـــا فاستثمـــرت في الإنترنـــت ودأبت على تفعيـــل النشر الإلكتروني بتفعيل الموقع الإلكتروني والترويج لتطبيقات الأجهزة المحمولة، استطاعت أن تجذب أعداداً أخرى من الجمهور إلى محيطها. ولكن في مجمل الأمر أؤمن بأن الكلمة وصياغة الفكرة يشكلان الأساس، مهما اختلف الشكل التي تظهر الافكار به، مطبوعاً أم إلكترونياً..
وأذكر موقفاً أصابنــي بالتشـــاؤم في الحقيقـــة، وهو أن صحيفة "فرانس سوار" الفرنسيــة استغنت عن خدمات غالبية موظفيها عندمـا أوقفـــت نشرتها المطبوعة، فاعتمـــدت على النشرة الإلكترونية فقط، وحينها سألت نفسي إلى أين سيذهب هؤلاء".
عربة
وفي السياق نفسه، تقول الصحافية سارة أحمد، صحافية:
"الحديث في الآونة الأخيرة، عن الخطر الذي بات يلتف حول مستقبــل الصحافــــة المطبوعة، بسبب التطورات التكنولوجية الحديثة والمتسارعة، إذ قدمت التقنيات الجديدة آفاقاً جديدة في مجال الإعلام والنشر لم تكن معروفة من قبل، كما أفـــرزت عدة أساليب غير تقليدية في نقل المعلومات، وأظن أن النشر الإلكتروني هو العربة التي ستسحب الصحافـــة المطبوعـــة نحو التطور والإبداع، بسبب سهولة وصول المعلومات الى الناس، في أي وقـــت ومكــــان.
فبمــــجرد الإمساك بالآي فون أو البلاك بيري، يستطيع الشخص تصفح مجموعة من الصحف في وقت قياسي، وكذلك الاطلاع أكثر على ما يجري حوله، في حين أن الشخص نفسه، لن يستطيع ان يكمل قراءة صحيفة ورقية واحدة، نظراً لكبر حجمها وصعوبة السيطـرة عليها في حال كان موجودا في مكان هو في الهواء الطلق (في أحد الكافيهات مثلا). وختمت سارة:
"صحيح أن العملية معقدة ومتداخلة وتحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، ولكن على النشر التقليدي المطبوع أن يتميز بمحتواه حتى يجذب الجمهور إليه، فالنشر الإلكتروني على المستوى العلمي والبحثي يتيح الفرصة أمـام الباحثين لتوجيه الجزء الأكبر من جهودهم إلى عمليات التحليل والتنبؤ والتفسير والكشف عن المتغيرات الجديدة، وهو ما يعد العمود الفقري للعملية البحثية، إضافة إلى السرعة العالية في الإنجاز، مع ضمان الجودة والكفاءة وبأقل جهد.
خصوصية ولا فناء
وعلى صعيد آخر، يؤكد طاهر المنجور، محاضر في مجال الاتصال الجماهيري في الجامعة الكندية بدبي، أن الصحف الإلكترونية لا تستعمل أبسط أبجديات الصحافة الكلاسيكية، ولكن التطور التكنولوجي سيجعل لها وزناً ثقيلاً في المستقبل. ويضيف:
"إن الصحافة المطبوعة حرفة لن يكتب لها الفناء، لأن جذورها لم تتغلغل في عمق التاريخ بطرفة عين لتختفي بطرفة عين، ذلك لأنها تعتمد على صحافيين ميدانيين يجلبون المعلومات للقراء من مصادر موثوقة، على عكس النشر الإلكتروني الذي يعتمد على الجلوس خلف المكتب لمتابعة أخبار وكالات الأنباء، وهذا فضلاً عن أن الصحيفة الورقية متوافــرة في كل مكان، مجاناً أو مقابل مبلغ مالي رمزي، وهذا بينما لا يزال جهاز الحاسوب وكذلك الانترنت أو حتى "البلاك بيري"، خارج دائرة التوفر بسهولة لدى كثير من الناس، في العديد من الدول النامية.
