تعود بنا الذاكرة، في إطار استرجاع شريط الذكريات والجوانب الحية التي عاشتها الساحة الثقافية في الإمارات ــــ بكل جوانبها ـــ إلى إذاعة دبي، قبل انتشار إذاعات الـ" أف أم".
إذ احتلت مكاناً بارزاً بين نظيراتها في العالم، خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فكان إرسالها يصل إلى شتى الأطراف، كما استهوت برامجها المنوعة، جميع المستمعين، أينما كانوا. وتعززت هذه الأهمية لإذاعة دبي، مع وضوح اتسام تغطيتها الإخبارية بالتميز والمصداقية، بفضل التزامها نقل الأحداث بحيادية وموضوعية وسرعة.
حظيت إذاعة دبي بشعبية كبيرة وواسعة، من مختلف شرائح المجتمع وفئاته، في غالبية دول المنطقة والعالم، طوال مسيرة عملها، وفي كل المحطات والاتجاهات والمجالات البرامجية. وكان من ضمن ذلك، بروزها الخاص ونجاحها بجدارة، في أثناء تغطيتها الحرب العراقية الإيرانية.
إذ مثلت الإذاعة المفضلة عند العراقيين، وكان المستمع يهرب من الإذاعات الرسمية التي لم تكن تنقل الحقيقة، ليلجأ إلى إذاعة دبي بفضل موضوعية في أخبارها ومصداقيتها في نقل وقائع الحرب.
وربما ليس من المبالغة، ان المئات بل الآلاف من الرسائل، كانت تصل إذاعة دبي من أرجاء العالم. ومن براهين وإثباتات ذلك، تلك الرسائل، التي كانت تصلني شخصياً من العراق، بشأن وعبر برامجي التي كنت أقدمها في إذاعة دبي.
اشتهرت إذاعة دبي بأصوات المذيعين المتميزة، حتى انه كان المستمع ليعرف إذاعة دبي من خلال صوت المذيع، قبل الإعلان عن اسم الإذاعة، ولعل من أهم المذيعين الذين أذكرهم صلاح عويس، وزوجته سهير ذات الحنجرة الذهبية، كما كان صوت ثائر حلاوة ينم عن شخصيته وطبيعة أسلوبه في الإلقاء، وأما فارس قرعان.
فيصلك صوته مباشرة ليستقر في ذهنك وهو ينقل لك الخبر، أو التحليلات الاقتصادية أو الحوارات المتنوعة. وارتبط صوت المرحوم علي سالمين بسباقات الهجن. ولعلي أجزم أنه خير من وصف تلك السباقات التي كانت تلهب مسامع المستمعين، سواء أكانوا أمام التلفاز أو المذياع. وكان ضليعاً بأسماء الهجن وأنسابها وأنواعها.
نجوم
كنت تستمع إلى عبدالقادر الكردي، رحمه الله، وهو يقدم لك برنامجه ذائع الصيت عن اللغة العربية. فالكردي كان حجة في اللغة العربية، وظل يقدم هذا البرنامج لسنوات طويلة، تمثلاً ببرنامج الدكتور جواد علي من إذاعة بغداد:" قل ولا تقل". إلا أن عبدالقادر الكردي لم يكن إعلامياً فحسب، بل حجة في اللغة العربية، وفناناً في الخط العربي لا يضاهيه أحد في خطوطه، ابتداءً من الثلث، ومروراً بـ: الثلث جلي والنسخ وتعليق جلي، فالكوفي والفارسي، وصولاً إلى آخر أنواع الخطوط العربية.
أما الشاعر المبدع عمر أبو سالم، فكان المستمع لا ينام إلا بعد أن يستمع إلى مرافئ الليل، مع المختارات الشعرية المنوعة التي ينقل المستمعين عبرها، إلى عوالم الرومانسية، مقدماً للمستمع، أجمل الاختيارات الشعرية العربية.
أعلام.. شعراء
وطبعاً، لا يقتصر الأمر على هؤلاء الأعلام في أزمانهم، والذين كانوا مرجعاً في تخصصاتهم، بل كانت الإذاعة تضم العديد من رجال الإعلام الأفاضل، أمثال: حسن أحمد، المراقب العام لإذاعة دبي، والذي كان نجماً تلفزيونياً إلى جانب مهامه الإذاعية.
ورغم ذلك فقد كان يهوى الكتاب ويردد على مسامعنا، أن أجمل ما يتمنى، هو أن يتقاعد ذات يوم، ويفتح مكتبة ويعيش بين الكتب. ولا أدري إن حقق الزميل حسن أحمد، أمنيته، بعد أن تقاعد عن العمل. وفي الإذاعة كان أيضاً شاعرنا عبدالعزيز إسماعيل.
وهو في منصبه الرفيع، مرجعاً إعلامياً وخبيراً في اللغة ومبدعاً في الشعر، وحنجرته الذهبية التي حينما تسمعها في مخارج حروفه وكأنه يقدم لك سيمفونية في إطار اللغة ومضمونها الشعر. ما الذي أذكره في هذه الإذاعة التي ضمتنا سنين طويلة، وإن كنت أعمل من خارج الفريق الوظيفي، بل لعلي لا أنسى الإنسان الطيب عبدالغفور السيد، مدير الإذاعة والتلفزيون، والذي غادر الدنيا على حين غرة.
أما على أجهزة الصوت والمونتاج، فأذكر ثلاثة، بقيت أسماؤهم، رغم كل هذه السنين، هم: عبدالرحمن السيد ومحمد حسن ومحمد الدبسي. وقد عمل الأخير معي سنوات طويلة في مونتاج العديد من البرامج الإذاعية التي قدمتها، إضافة إلى المسلسلات الدرامية.
شخصية فريدة
وأما نجم الإذاعة والتلفزيون يومها، فهو الأديب والإعلامي، والحجة في اللغة، حسيب كيالي، ولا أزال أتشرف، بأنني عاصرت هذا الرجل، وعملت معه وجالسته وأحببته وأحبني. وتعرفت إليه أولاً، من خلال مسرحياته التي قرأتها، قبل تعرفي على شخصه في نهاية السبعينات من القرن الماضي، إذ فوجئت به يعد حواراً إذاعياً معي، وكأنه يعرفني تماماً مثلما أعرفه. وكان لقاؤنا ذاك لا يشي بأنه الأول، ومنذ تلك الفترة نلت شرف صداقته.
إن أبو محمد: (حسيب كيالي) حجة في اللغة، ومرجع لكل من يشك في كلمة، في البلاغة أو اللغة. وهو رجل إعلام وكاتب ساخر وشاعر وقاص موهوب ومسرحي من الطراز الأول. وكثيراً ما كنا نتحلق حوله، في كل ظهيرة، عقب انتهاء الدوام الرسمي، في نادي النصر في دبي، لنستمع منه إلى العديد من الآراء والتعليقات والدروس المتميزة في البلاغة واللغة والشعر.
وأما في الليل، فهو من كان يتصدر الجلسات في ربيع الصحراء (قرب جبل علي)، وهو الذي محته، حالياً، ناطحات السحاب التي امتدت على جانبي شارع الشيخ زايد.. إن شخصية أبو محمد، وعلى كبر سنه، كانت مميزة جداً، وهو لم يكن محبوباً من الذين يعرفهم فحسب، بل كان يعجب به من يلتقيه حتى ولو للمرة الأولى..
وأذكر ذات مساء، كنا نسهر خلاله، في ربيع الصحراء، فدنت منه امرأة انجليزية وأخذت تتحدث معه، ولكنه لم يفهم لغتها، وكذا هي، حتى وهو يرطن معها بالفرنسية، إذ لم يكن يتقن الإنجليزية. وكذلك تلك السيدة لم تكن تعرف العربية ولا الفرنسية، فاستعان بي مترجماً، وأخبرته بما تعنيه، إنها معجبة به (وهو في الثمانين من العمر)، وأنها تود أن تتعرف عليه، ورغم وساطتي، إلا أن العلاقة لم تستمر، حسب ما عرفت بعد ذلك، بسبب "لغة وحوار الطرشان" بينهما، أي عدم قدرتهما على التواصل اللغوي.
جرأة
كتب حسيب كيالي، عدة مسرحيات عن النظام السوري، لكن لم تستطع أية جهة طباعتها، بتأثير وفعل حدتها وجرأتها، وذلك رغم جماليات الحوار والحدث والبناء، واعتقد أنها طبعت بعد وفاته، ورغم أنه أهداني نسخة مطبوعة، إلا انني لا أزال احتفظ بالأصل المكتوب بخطه الأنيق. وعموماً، كانت كتاباته الساخرة تطال العديد من الشخصيات المعروفة، بعضها ينشر والآخر يعود إليه لصعوبة نشره.
فهو كاتب قدير في فنون الكتابة الساخرة حتى العظم، وكان يستطيع بمهارة حاذقة، التلاعب بالألفاظ والكلمات والتعابير، دون ان تصطاده شبكة الرقيب، لكن، ورغم ذلك، فإن شدة سخريته طالت أعلاماً لا نريد أن نذكرهم احتراماً لأسمائهم.
عشق دبي
إن حسيب كيالي شاعر له قصائد جميلة، خاصة تلك القصيدة التي أهداها إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حفظه الله، والتي تعد من لآلئ القصيد العربي، ومع الأسف فقدت النص، وما عادت ذاكرتي تساعدني على استذكار تلك الأبيات البلاغية الجميلة.
وأبو محمد كان يعشق دبي، وكان يردد على مسامعنا، أنه يود لو يدفن في مدافنها، وقد تحقق له ذلك، وكان يحب الشاعر عارف الخاجة أيضاً، لذا، وحينما جاءت ساعة رحيله، كان عارف الخاجة يجلس عند رأسه، فاحتضنه وضمه إلى صدره، واتصل بي حتى أصل إلى مستشفى راشد في دبي، قبل وفاته، رحمه الله، إلا أنني وصلت متأخراً، إذ كان علي أن أقطع المسافة ما بين الشارقة ودبي.
، وهكذا فإن القدر كان أسرع مني، ولكن عزائي كان بأن عارف الخاجة احتضنه وهو يقرأ آيات من الذكر الحكيم، وأدعية فوق رأسه، ثم رحل حسيب كيالي وهو في حضن عارف الخاجة. وأيضاً دفن، كما أراد، في دبي.
فضاءات مسرحية
ربطتني صداقات عائلية وثيقة، مع العديد من العاملين في الإذاعة، أمثال: عمر أبو سالم، عبدالقادر الكردي، إضافة إلى علاقتي مع حسيب كيالي وعبدالعزيز إسماعيل، وآخرين. لذا فقد دُعيت لتقديم برنامج أسبوعي، بعنوان: "فضاءات مسرحية"، كانت مدته نصف ساعة، ويبث أسبوعياً في كل يوم أربعاء.
وكان يعاد بثه يوم الاثنين. وهو برنامج شامل عن المسرح في أبعاده المحلية والعربية والأجنبية، وقد استمر بث هذا البرنامج بشكل متواصل، أكثر من ثماني سنوات، إذ بدأ مع بداية الثمانينات من القرن الـ20، وانتهى مع بداية التسعينات.
وكنت قد قررت في تلك الفترة، أن أترك العمل الوظيفي وأتفرغ للكتابة والمسرح، ونجحت إلى حد ما، إلا أن الظروف المعيشية أجبرتني على العودة إلى الوظيفة الرسمية، لذا فقد كان من ضمن خططي، أن أقدم مسلسلات درامية خاصة للأطفال، وكانت إذاعة دبي هي الإذاعة التي احتضنت المشروع، وبذلك حققنا السبق بين كل إذاعات الخليج، التي خلت، حينها، من أية مسلسلات درامية للأطفال.
وحققت مع زملائي الممثلين، آنذاك، والذين مثلوا في تلك المسلسلات، نجاحات مهمة، وكان من بين هؤلاء الممثلين، ممن أذكرهم: أحمد الجسمي، أحمد الأنصاري، سيف الغانم، عبدالله صالح، عبيد علي، محمد سعيد، محمد الحمر، مريم سلطان، عائشة عبدالرحمن، حميد سمبيج، محمد يوسف، حمد بو سالم، إبراهيم فراشة، محمد عبدالله. كما ان هناك ممثلين آخرين، غابوا عن الذاكرة بفعل تعاقب السنين. وقد أنتجنا مئات الساعات الإذاعية المتميزة، وأذكر منها: مسلسلات: طير السعد، الطيور، القنديل الصغير.
وكذلك عدة مسلسلات أخرى، ضاعت من الذاكرة، إلا أنني أذكر أنه من أهم ما قدمناه: مسلسل درامي ووثائقي ونقدي عن الشاعر سالم بن علي العويس، ثم كتب يوسف يعقوب مسلسل "بو محيوس" بـواقع 360 حلقة. وكان من حظي أن أخرجت منها 180 حلقة، كانت تبث مرتين يومياً، لمدة ستة أشهر متتالية.
وبذلك حققنا عدد ساعات إذاعية مهماً. وللأمانة، فقد شاركني في هندسة الصوت في كل تلك الأعمال، الصديق محمد الدبسي، وكان متميزاً في دقته بالمونتاج. ولديه خبرة طويلة مع العديد من المطربات والمطربين، في تسجيل ومونتاج أغانيهم، أمثال: نجاة الصغيرة، فايزة أحمد.
وكان محمد الدبسي عنصراً فاعلاً في العمل الفني بتركيب الأصوات ودقة المؤثرات. وقد عايشته بالعمل سنوات طويلة، وكنا نحرص على العمل ليلاً بعد العاشرة، حينما تهدأ الإذاعة ويفرغ الاستوديو من الزملاء، خاصة وأن الأعمال الدرامية تحتاج إلى وقت طويل وتركيز وهدوء، لأنها عملية متعبة ومعقدة.
"اختفاء الغراب"
أذكر من الأحداث الطريفة في العمل، وتحدثت عنها في أكثر من مناسبة، يومها كنت أنا ومحمد الدبسي نقوم بمونتاج مسلسل "الطيور". وقد هدنا التعب وشعرنا بالإرهاق، فقررنا الاستراحة وتناول العشاء.
ورتبنا العمل إلى حين عودتنا، بوضع مؤثر لصوت الغراب على جهاز التسجيل، وحين عدنا بعد العشاء، فوجئنا بأن الغراب غير موجود، علماً أن أحداً لم يدخل الاستوديو، وعبثاً حاولنا أن نعثر على صوت الغراب، حتى اضطررنا لوقف العمل والعودة إلى بيوتنا للاستراحة والعودة في اليوم التالي، بحثاً عن صوت الغراب "والذي صدناه في اليوم التالي".
إنتاج ضخم
كان مسلسل "سالم بن علي العويس" في إذاعة دبي، من أضخم المسلسلات التي كتبتها وأخرجتها، إذ حشدت له تسعة نقاد وفريق ممثلين لأداء كل الوقائع، إضافة إلى ممثل خاص بقراءة قصائد العويس بالفصحى، وآخر بالعامية. وكان المفروض أن نسجل البرنامج في التلفزيون ضمن البرامج المشتركة لدول الخليج، إلا أن الظروف حالت دون ذلك، مع رحيل عبدالغفور السيد، الذي تبنى فكرة تسجيله تلفزيونياً في الكويت.
لقد كانت مرحلة ذهبية لا لإذاعة دبي فحسب بل لنا نحن الذين كان صوتنا ينطلق مع أثير دبي إلى العالم، وكنا نتلمس ذلك من خلال مئات الرسائل التي تصل إلى الإذاعة، تثميناً للبرامج التي كنا نقدمها، وكان لي شرف المبادرة مع البرنامج الخاص بالمسرح. وكانت إذاعة دبي تتفرد بتخصيص برنامج عن المسرح.
كما كانت إذاعة دبي الرائدة في تقديم المسلسل الدرامي الخاص بالأطفال، وبالفعل كانت تجسد طبيعة الحياة الثقافية ذات السمات الخاصة بلحمة وتقارب العاملين في هذا الوسط. وكنت حاولت في فترة ما، أن أتفرغ للكتابة والمسرح، وقد نجحت إلى حد ما، لولا مسؤوليات الحياة وضرورات المعيشة.
وللأمانة أيضاً فقد كانت المكافآت في الصحافة والإذاعة مجزية، على قلتها. وأذكر أنني شخصياً، كنت أستلم مكافأتي من جريدة «البيان»، ثلاثة أضعاف على ما هي عليه الآن. وأما أجور إذاعة دبي فكانت أيضاً ممتازة، والواقع أن متعة العمل كانت مع إذاعة دبي، في تحقيق مردود معنوي، ولكثرة السامعين للبرامج التي كتبتها وأخرجتها، بما في ذلك الدراما.
