يحرص الفنان التشكيلي السوري ثائر هلال، على دعوة بعض الأصدقاء المقربين، من فنانين وأدباء وشعراء وصحافيين، إلى مشاهدة أعماله أثناء العمل على انجازها، وقبل دفعها إلى صالة العرض. وربما يستمزج آراءهم حول عنوان المعرض الذي سيضم تلك الأعمال، علماً بأنه لا يعير اهتماماً بالغاً لمسألة العناوين، لأنها تحد من خيال المتلقي، حسب اعتقاده.
يشتغل الفنان ثائر هلال، منذ أكثر من عقدين من الزمن، على ثيمة جديدة في عالم الفن التشكيلي، «مسارات» التقت ثائر هلال. وأجرت معه حوارا، تناول تجربته الجديدة في معرضه الأخير «جيش نثق به»، والذي أثار العديد من الأسئلة في الساحة الفنية، وامتد الحوار على مساحة تجربة هلال الفنية الطويلة والغنية، والمعمدة ببعد أكاديمي لا يمكن إغفاله، حيث يعمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة بجامعة الشارقة.
الوجود والوجدان
ينتقل الفنان السوري ثائر هلال في معرضه الأخير «جيش نثق به» من أكثر الأنماط التشكيلية تجريدية إلى الخطاب السياسي المباشر، هل يعكس ذلك ضرورة مرحلية مؤقتة، استجابة لمخرجات الثورة السورية، حاليا ؟ أم أنه توجه فني جديد في مسيرتك الفنية ؟
الحدث هائل، فاجع، وحشي، بشع، وقذر وغير انساني. وهذا أكبر من أن نكون طبيعيين، فأرواحنا مدمرة ومحبطة، وهو كاف لزلزلة أعماقنا والحفر في الوجدان ونبش المخزون الأخلاقي. وكل الإشارات الإنسانية فينا، واخراج كل الدلالات المباشرة والرمزية للجرح وتسخيرها للفضح والإدانة من جهة، والتوثيق والتسجيل لتلك الجريمة من جهة أخرى.
وذلك باعتبارنا شهودا على مرحلة تحول مفصلية كبيرة في مختلف مناحي حياتنا، وهذا نوع من الشعور بالعجز والتعويض، لعدم القدرة على فعل شيء أمام وحشية العسكر، وأمام أطفال يستصرخون العالم، أو أمام فواجع الأمهات والزوجات، حيث السؤال المطروح هو: ماذا يمكن أن نفعل أمام إنجازات هؤلاء الشبان الأبطال الذين خرجوا إلى الشارع وقالوا لا للاستبداد والتسلط.
ولا لكم الأفواه ولا للفساد ونعم للحرية، في كل المدن السورية وأريافها. فواجهتهم آلة الموت العسكرية المتوحشة، ألا تعتقد أنه من غير الطبيعي أن نستمر كما كنا؟ أليس من الطبيعي أن يغلي الدم في أجسادنا البشرية وتختل خفقات قلوبنا؟ أليس من الطبيعي أن تجن أرواحنا؟ أليس من الطبيعي أن تتزحزح مشاعرنا المتحجرة منذ زمن طويل؟
إن التحولات في ظاهر التجربة الفنية وباطنها، مسألة مرهونة بواقع ووعي الفنان والمشاعر والأحاسيس والانفعالات والأحداث، بينما تبقى الرسالة راسخة بتلقائيتها وتعقيداتها وتعكس الوجود والوجدان، وتقول أشياء بعينها.
أما بخصوص الخطاب السياسي المباشر فلا أجد نفسي في هذا الموقع، فأنا فنان فقط وأكره هذا المستنقع، ولا أحب أن أكون خطيبا أو متحدثا سياسيا، وأفضل على ذلك، لغة الفن، فهي أعمق ورؤيتها أوسع.
«جيش نثق به» عنوان يبدو مثيراً للجدل، ويفتح الشهية على طرح الأسئلة، ما الذي تريد قوله من ورائه؟
العنوان صادم بلا شك. وقد يدفع المتلقي إلى التساؤل وربما الشك، إلا أنك يجب أن تشاهد الأعمال لتدرك حجم المرارة والحسرة والألم، وهو عنوان ناقد فيه تهكم أسود وخيبة أمل كبيرة، كما أنه يعود بي إلى المعنى المطلق لمفهوم الحرية، ويطرح علي كما كبيرا من الأسئلة، حيث يراهن الناس في الشارع على منجز الفنان والشاعر والأديب والسياسي ليكونوا بمثابة روافد للثورة الحقيقية.
وأن يتبعوا خط الناس، وعندما تشير إلى خطوطهم الحمر التي لا يمكن تجاوزها، كأنك تمسك الجمر أو تقبض على النار، فهذا يعني أنك تحاول وتشير وتسجل وتفضح وتشارك وتتفاعل وتنتقد وتمارس حقك البشري، والمثير في العنوان هو ذلك التحدي الذي يظهر عندما تشير الى النقيض للجرح النازف، وعندما تضع عليه الملح.
الفن نبتة
كيف تنظر إلى الدور الذي يتعين على الفنان أن يلعبه في المجتمع، وما مدى تأثره في بيئته الاجتماعية، لا سيما إذا كان هذا المجتمع يمر بمرحلة حاسمة من تاريخه؟
دور الفنان واحد لا يتغير، مثله مثل الجندي الشريف أو الشاعر الذي يكتنز أحاسيس البشر ويطلقها في ومضة، والفن مثل النبتة لا معنى لها إذا غرست في تراب غريب عنها، ومن الطبيعي أن تكون وفية لترابها ومنبتها. وأن تتفاعل معه، وإلا فلا حياة لها، ولا امتداد ولا رفاق من حولها ولا حماية. وهذه هي الطبيعة وهكذا الفن.
مفهوم خاص
ماذا عن الاعتماد على الصورة الفوتوغرافية واللونين الأسود والرمادي في أعمال معرضك الأخير.. هل كانت ريشة ثائر هلال عاجزة عن التعبير عن فداحة الأحداث في بلده سوريا حتى يلجأ إلى هذه المكونات، التي تبدو غير مألوفة في أعماله السابقة؟
ليس عجزا، وإنما هو مفهوم خاص بهذا المعرض، اشتغلت عليه بشكل مقصود، كونه مرتبطا بواقع معين، وقد فرضت الصورة نفسها بقوة في هذه الفترة، وذلك للبلاغة الهائلة لتلك الصور الخاصة، بما تحمله من ملامح جديدة، حيث إنها صورة مرتجفة، خائفة و شجاعة، بشعة وجميلة، مسروقة ومهربة، شرعية ومحقة..
صورة نتلقفها عبر وسائل مختلفة، معظمها مأخوذ بواسطة أشخاص غير محترفين، وهنا تكمن أهميتها، حيث لا تظهر إلا المعاني الهائلة والرمزية المكثفة فقط، فهي بليغة وآسرة وملهمة، وحضور آلات الموت فيها، كبير وجبار وعدواني كاسح وصلف، فهي تلغي الحياة وتجلب الموت والدمار، وهذا سبب من أسباب حضورها في لوحتي الجديدة في معادلة العتمة والظلام:
الأسود الحالك، لم استطع إلا أن أتوقف عندها، تلك الصور هي مفتاح لأسئلة، ليس لها نهاية عن المستقبل والحاضر، وقد عادت بي إلى طفولتي ونشأتي ومدرستي والأزقة والحواري، والتربية والأخلاق والضمير، والوطن والعدو والسياسة والجغرافيا، والحق والشر والكثير الكثير.. ومنها اتطلع إلى مستقبل أولادي أيضا.
إذا أردنا تأطير تجربة ثائر هلال من الناحية النظرية، كيف يصف ثائر هلال تجربته الفنية ؟
أستطيع الحديث عن أطر كثيرة مفتوحة على التجريب والاحتمالات، في مجالات الثقافة المحلية أو الثقافة العربية المفتوحة على ثقافات العالم، وليست منغلقة، فهي متأثرة بمختلف تيارات الفن المعاصر.
حواف وهوية ولون
هل يعكس أسلوبك الفني الذي يعتمد على المجاميع والضخامة، نظرة كونية صوفية؟
المفهوم الصوفي، كوني واسع، ولست صاحب نظرية، وإنما مجرب جاد ومعاصر في هذا الإطار المعرفي الهائل المفتوح على البحث والتأمل. من جانب آخر تبدو اللوحة أو العمل الفني الذي أنتجه كفنان معاصر، وأنا في موقع المراقب البعيد، صورة لمشهد شمولي واسع، متخيل وواقعي، غني ومحشود، كتلك الحشود البشرية التي تخرج الى التظاهر، فكلما كان العدد أكبر كان المشهد أكثر مهابة وزهوا.
وهذا ما كنت أرسمه وأتخيله وأحلم به في السنوات العشرين الماضية، وهذا ما شاهدته في شوارع تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وفي لوحتي تبدو المفردة متكررة بعينها، بينما هي في الحقيقة متشابهة الى درجة كبيرة.
وتحمل كل منها طاقة تعبيرية محددة لتشكل مجتمعة الطاقة التعبيرية الكلية للعمل الفني، وللتكرار هنا إيقاع بصري مهم، فهو يمثل ترددا جارفا لفكرة معينة للتأكيد عليها وفرض أهميتها، حيث يتم ذلك بوتيرة واحدة منغمة، تكسبها نوعا من الثراء لكسر الرتابة والملل.
وفيما تبدو الصورة مشوشة أو مهزوزة مزدحمة بالعناصر المرتابة المهزومة متحركة في مستويات مختلفة، متبدلة متقلبة ومتوالية، تبدو في جانب آخر، صورة بعناصر ذات حواف حادة واضحة وفجة، تتوالى ولا تتوارى، لا أولية ولا نهائية، تتناسل وتتناسخ كما الأرواح، تارة شفافة وتارة دسمة، هائمة أو مستقرة في السديم.
ما الذي استهواك في هذا الأسلوب حتى أصبح يعبر عن هوية فنية، بمجرد النظر إليها يدرك المتلقي أنه يقف أمام أحد أعمال ثائر هلال؟
أجد في هذا الأسلوب قدرة خاصة على التعبير والبوح، فهو يسمح لي بالاسترسال والتجلي من خلال الإعادة والتلذذ بالمفردة، وإعادة تشكيلها بحيث تشكل طاقات تعبيرية لا تستنفذ، تتميز بأنها متبدلة ومتجددة وتنشد ما لا نهاية له، كما هي دقات القلب.
الحقيقة هي أن هذا الأسلوب الفني ليس مجرد اختيار مرتجل أو بسيط، بل هو حل إبداعي أو شكل فني مطور جاء كنتيجة طبيعية لبحث عملي معقد في مفهوم جديد لمعنى ودلالات الصورة المشهدية، القائمة على عنصر واحد مكرر أو مجموعة من العناصر المتشابهة، ومحاولة صياغتها وفق رؤية تصويرية خاصة.
وابتكار معان جديدة للصورة بعلامات وإشارات بصرية أُعيد احياؤها في واقع وصور جديدة مختلفة، بعيدا عن حياتها الأصلية في حالات منوعة متبدلة، حية ومتفاعلة، وليست جامدة. تتسع وتدوم وتتضاعف لتصبح وحدة متكررة متجانسة في كيان أكبر، وهي تشبه عمل مجموع الكمنجات المتماثلة في الأوركسترا السمفونية مثلا.
وهذه الرؤية متطورة عن مفهوم فلسفي جمالي، يترجم وبشكله المعاصر، العلاقة التي تكونت بين شخصي كرسام وعملي الفني، وبين الرسام وطبيعة الثقافة الإنسانية المكتسبة للمكان والبيئة التي أتفاعل معها بتناقضاتها الاجتماعية والمعرفية المعقدة، وهذا التكرار يحدث ما يمكن تسميته بالإيقاع، كنتيجة لتنظيم تلك الفواصل أو الوحدات البصرية.
ومن هذا الانتشار تتكون علاقات جديدة لأشكال جديدة، تحدث إيقاعا معينا من خلال تلاقيها وتقابلها وتشكلها، ولهذا الإيقاع سطوة وعاطفة كبيرة في النفس الإنسانية، بحكم التكوين الطبيعي لهذه الإيقاعات في الجسد والطبيعة.
وهو ما يجعلنا في كثير من الأحيان مطمئنين إذا وجدناه، فضربات القلب والتنفس وطرفة العين، هي ايقاعات طبيعية لا يمكن العيش من دونها، ولذلك تترنم الأغلبية منا بشكل غير إرادي لسماع الشعر الموزون أو المقفى أو الموسيقى. وكذلك الفنون البصرية، والإيقاع مسألة فطرية مرتبطة بعلاقة الإنسان بالطبيعة، كونه جزءا منها وخاضعا لقوانينها.
مذهب ورؤية
ما هي ملامح المشروع الفني الذي يتبناه ثائر هلال وفي أي اتجاه يسير؟
بالرغم من الخصوصية التي ميزت تجربتي الفنية، وبالرغم من الصدى الجيد الذي حققته، فإنني غير مهتم بتصنيفها حاليا أو وضعها في قالب معين، وأعتقد أن هذا يأتي لاحقا كتحصيل حاصل، والمهم بالنسبة لي في هذه المرحلة هو تطوير وجهة النظر والمفهوم باتجاه حر، بعيدا عن الأحكام المسبقة، لأن إطلاق «حكم» على هذه التجربة قد يفرض سلطته على الأسلوب وطريقة التفكير.
وهذا قد ينفي صفة الفن ويدخل التجربة في نوع من النمطية المفتعلة، والأجدر أن يستمر البحث الى النهاية، وخاصة إذا كان في مناخ مثير ومنطقة غنية تستحق الاستكشاف والتجريب، كالمنطقة التي أجد نفسي فيها، وهذا يمنحني الشعور بالطمأنينة والهدوء من جهة، ولأنني لم أكتف بأن أكون رساما أو مصورا تقليديا فقط.
وتتجلى في جانب آخر من شخصيتي حالة من القلق والتقلبات المستمرة بشكلها المرضي الانفصامي المزمن، لتسهم في منح جرعات من الجنون والمغامرة التي لابد منها، فتعبث بالأسلوب وتخلخله وتتغلب عليه وتبدله. أو تمنحه مزيدا من الحيوية والصفاء.
فقد أنجزت على مدى السنوات الماضية، وعلى فترات متباعدة، إلى جانب أعمال التصوير على القماش، مجموعة من الأعمال الفراغية المركبة أو ما يعرف بالتنصيبات، وهي مختلفة إلى درجة كبيرة في طريقة بنائها وتعاطيها. وتحمل في ظاهرها وباطنها، الكثير من صفات العمل المفاهيمي مثلا.
وفي الوقت نفسه، تتقاطع وتختلف مع مجموعة أعمالي، في نقاط متعددة، من ناحية الأسلوب والشكل والأفكار والمضمون، وفي كونها أكثر من مجرد عناصر متكررة في سطح أو فراغ، بل هي في لحظات تجسيد للعلاقة الوطيدة أو لشكل التماهي الكبير ما بين واقع الحياة والعمل الفني كعالم قائم بذاته.
وفي لحظات هي أكثر تعمقا من حيث الاهتمام، بالعلاقات الداخلية لمكونات العمل الفني نفسه، باعتبارها نظاماً له طاقته وبنيته الشكلية الإشارية الذاتية. ولا يعكس واقعا معينا، وليس له علاقة بالفلسفة أو الأفكار الأدبية أو الدينية. وهو ينشد تحرير المفردات البصرية من المعاني الشعرية والقيم الأحكام الأخلاقية. ليكتسب وجوده الخاص المستقل في عملية خلقه الحر، بعيدا عن المرجعيات المدرسية الأكاديمية.
وهذا يحدث كوني سمحت لنفسي أن أجرب في هذا الحقل أو ذاك، فمفهوم اللعب أو التسلية في الحياة، على سبيل المثال، موجود ويوازي هنا ما أفعله من لعب في الصور والعلامات والعجائن اللونية وأبعاد الفراغ، ولذلك لا أستطيع هنا وصف أسلوبي بأنه تجريدي أو بنائي مستقبلي أو تفكيكي أو مفهومي، إذ ان الحديث عن أسلوب أو إطلاق توصيف معين، قد لا ينطبق بشكل دقيق على تجربتي حاليا.
