التسامح والإخاء وإظهار القوى وثقافة ردع الشر والقتال. تلك جميعها ما يمثل الجوهر الحقيقي لفنون ورياضة "التحطيب" في مصر، التي نشأت منذ سبعة آلاف سنة، على ضفاف نهر النيل، الشاهد على كل العصور لدى الفراعنة. ويعد "التحطيب" نمط رياضة مصرية قديمة، منذ الفراعنة، الذين أطلقوا عليه مسمى: »المبارزة السلمية«. وركزوا على الاهتمام به وتعليمه للأجيال، إلى أن رسخ في الوعي المجتمعي لديهم، كطقس ثابت، تحكمه قواعد واصول، وله أساتذة ومتخصصون، مسؤولون عنه وعن تعليمه.

 

تعكس جدران المعابد الفرعونية، صوراً منحوتة ومرسومة بألوان ثابتة، مأخوذة من الفواكه بعد تجفيفها، كالرمان والتين والسفرجل، تصور وتجسد مباريات التحطيب، خلال عهود الحضارة الفرعونية في مصر. وتمحورت هذه الرياضة لدى القدماء المصريين، في عمقها الحقيقي، حول غرض للتدريب على الأسلحة ــ دون استخدامها ــ وذلك عبر استخدام العصي الخشبية المجوفة والقوية، في آن واحد، إلاّ أن هذا الجوهر تطور فعليا، ليصبح التحطيب، إحدى ابرز الرياضات القديمة.

وألمع أشكال الفنون المعبرة عن عدة قضايا، ومنها: مشاهد القوة والسيطرة على النفس (برزت هذه المعالم من خلال احتفاليات رياضية نادرة)، البهجة العارمة في الأفراح الخاصة بالزفاف او قدوم اوالأعياد. بقيت هذه الرياضة الشعبية، حاضرة وذات طابع احتفالي. وهي تشكل مكونا رئيسيا في التراث الشعبي المصري.

وأطلق عليها مسمى «التحطيب»، لأنها تمارس باستخدام عصا مصنوعة من نوع حطب محدد خاص بها. كما تتولاها مجموعة صناع وحرفيين مصريين مهرة. ولا تزال هذه الرياضة، تحوز أهمية كبيرة في المجتمع، ذلك كونها تعكس قيمة متأصلة في التاريخ، منذ العصور الفرعونية وحتى الآن، وذلك بشكل بارز، ضمن ريف مصر وصعيدها.

 

عصا "البردي"

كان قدماء المصريين يستخدمون في رياضة التحطيب، في أحيان كثيرة، عصا من لفافات ورق البردي، المصنعة بطريقة خاصة جداً، بحيث جرى تصميمها لتكون بصلابة العصا الخشبية، وحتى الآن تعتبر صناعة عصا التحطيب من أوراق البردي، أحد أسرار القدماء المصريين التي لا يعرفها سواهم؛ وكان يتم التحطيب وسط تظاهرة فرح، على خلفية موسيقية وأمام النهر.

وكانت هذه الرياضة لا تنتمي إلى الطقوس الفرعونية العقائدية، كما أنها من التراث الاجتماعي القديم لديهم. وكان التحطيب الفرعوني مؤثراً في مكونات وجوانب عدة للحضارات القديمة المختلفة، مثل رياضة «الكنيدو» اليابانية، والمبارزات القديمة للحضارات الصينية والغربية، والتي تتشابه جميعها. وكذلك تتماثل في أخلاقياتها وحركاتها، مع جذور رياضة التحطيب.

 

طقوس ومناسبات

تنتشر رياضة التحطيب في الريف المصري وفي الصعيد، وهي تعد في تلك المناطق، بمثابة إيقاع رياضي وفولكلوري نوعي، يملك أصوله الخاصة وقواعده التي يعرفها الناس في تلك المجتمعات. وتظهر هذه الرياضة في مناسبات الأفراح بشتى انواعها، وفي الموالد وسهرات السمر، فتؤدى فنونها على وقع ألحان خلفية موسيقية للمزمار «البلدي» المصري العريق.

وتتميز رقصة ورياضة التحطيب بدقة الأداء وجماليات الحركة وخفتها والحبكة الفنية فيها. واللافت أنه تابعت فرق الفنون الشعبي، استحضار ونشر وحفظ هذا الفن، فاستمرت في تقديم استعراضات راقصة فريدة له، وبرزت في هذا الشأن، فرقة رضا للفنون الشعبية، وخصوصا أداء الفنان محمود رضا، وتحديداً في لوحة الرقص الشعبي للفرقة، المعروف باسم «رقصة التحطيب». وقد عكست السينما المصرية بقوة وتميز، فنون "التحطيب"، وتجسد ذلك بوضوح ومهارة ومرونة، في فيلم «غرام في الكرنك»، من بطولة محمود رضا وفريدة فهمي وماجدة الصباحي والفنان محمد العزبي.

وطبعا، فإن لهذا الفن أصولا وقواعد، ففي المرحلة الأولى منه، يدور لاعبان يرتديان الزي الصعيدي او زي الريف المصري، على محيط الساحة المخصصة، ثم ترفع العصا فوق رأسيهما، وبعدها، يقف اللاعبان، أحدهما في مقابل الآخر، و يلف كل لاعب عصاه فوق رأسه، من الخلف إلى الأمام، ويعاودان الدوران بعضهما حول بعض.

وتنتهي هذه الرياضة بعد استعراض طويل، لترتكز العصا بطريقة خاصة لا يعرفها سوى اللاعبين، وفق منحى يوجه فيه كل منهما «الضربة الأخيرة»، والتي ترتكز فيها وبقوة، عصا أحد اللاعبين في وسط عصا الآخر.ومن طقوس هذا الفن، أن العريس في صعيد مصر وريفها، لابد وأن يبدأ الفرح بهذا الاستعراض، بينه وبين أحد أقارب عائلة العروس، شرط أن يكون كل منهما في المرحلة العمرية نفسها، وفي مستوى القوة واللياقة البدنية ذاتهما، ويتم ذلك على أنغام المزمار البلدي وزغاريد النساء وقرع الدفوف ورنات الرق: «آلة لها رنين جميل ضمن التخت الشرقي المصري».

 

احتفاليات ومشروعات فرق

تقام في مصر، حتى اليوم، مهرجانات متخصصة بهذا الفن، ومنها: "مهرجان التحطيب" الذي أقيم لأكثر من دورة، وفقاً لقواعد وأصول ثابتة ومحددة، فالعصا المستخدمة تتنوع أوزانها وصلابتها وخاماتها، وفقاً لأوزان وعمر اللاعبين، ولا يحق للاعب أن يؤذي شريكه وإلاّ تخرج هذه اللعبة عن قواعده الثابتة، وتستمر المباراة من تسع إلى عشر دقائق، ولا يحق للمتسابق دفع الآخر بالعصا أرضاً لينهي المباراة، وإذا وقعت عصا أحد اللاعبين في إطار هذا الفن الشعبي فلابد للآخر، من أن يتوقف احتراماً لزميله ، حتى يلتقط العصا من الأرض، ومن ثم تبدأ جولة أخرى.

وتبنى محمد عبد المنعم الصاوي، المسؤول عن «ساقية الصاوي» في القاهرة القديمة: «القاهرة الفاطمية»، مشروع إنشاء فرق خاصة للتحطيب، إذ تقام ورشات تدريب على هذا الفن الرياضي، للحفاظ عليه من الاندثار في زمن التغيير اللاهث.

ولا يزال الإقبال الكبير على التدريب على التحطيب، قوياً. ويقوم بالتدريب عليه وتعليم فنونه، متخصصون مؤهلون، يقيمون المهرجانات والمسابقات بين الشباب الواعد المقدم على التعلم والحفاظ على هذه الرياضة من الاندثار.

ويراعي المدربون شرط ألا يكون هناك أي خصومة بين طرفي هذه اللعبة، كي لا تتحول إلى عداء، وإنما فقط الى استعراض جميل نادر ومتخصص، يعكس شهامة أهل الريف وصعيد مصر، وايضا سلوكياتهم الأصيلة، وهذا كله سر انتشار هذه اللعبة التي يتزايد عدد الإقبال عليها لمعرفة أصولها الحقيقية. وما يثير الانتباه أن هذه الرياضة، ادت الى انتعاش الإقبال على صناعة الملابس الريفية والصعيدية، من جلباب أنيق وعمامة ذات طراز لافت.

ولا تشترك النساء في هذا الفن، ذلك لأنه يحتاج قوة عضلية فائقة، يمتلكها الرجال فقط، ويقتصر دور الفتيات والنساء على الرقص الإيقاعي المتخصص، وذلك على أنغام الموسيقى العربية الطربية، والتي تتخللها زغاريد الحضور، وتبرز خلالها انعكاسات الألوان الزاهية لملابس الفتيات، وهي ملابس على شكل الزي الفلاحي والصعيدي المصري، وتغطى الرأس بطرحة ملونة طويلة، تتمايل مع الإيقاع والزغاريد.

وتشتهر مدينة الأقصر في صعيد مصر- جنباً إلى جنب مع آثارها الفرعونية وعاداتها الاجتماعية ــ تشتهر بإقامة مهرجانات التحطيب، وخاصة في الموسم السياحي الذي يجذب سياح العالم الى مشاهدة ربع آثار العالم على أرض الكنانة، وسط تظاهرة فرح يوجدها فن التحطيب، ويحاول السياح المشاركة فيه على سبيل المرح.

وتقام مهرجانات التحطيب في الأقصر، ضمن الساحات الواسعة الممتدة أمام الآثار الفرعونية الجاذبة لأنظار العالم، بمصاحبة مجموعة العازفين على المزمار. واشتهرت فرقة الأقصر للفنون الشعبية بهذا العرض الرائع، والذي يستمر طوال العام، ولا ينحصر فقط بالموسم السياحي. وتشترك في المهرجان فرق من سوهاج وأسيوط والمنيا، وهي جميعها مدن صعيدية، يتقن رجالها فن التحطيب، المتوارث من الآباء والأجداد.

وتهتم هيئة المهرجانات الخاصة بالتحطيب، بطبع وإعداد كتيبات عن فن التحطيب، وعن تاريخه وأصوله ومناطقه الجغرافية في مصر المحروسة. وتعد لعبة التحطيب، والتي ترمز في مجملها إلى قيمة البطل الشعبي: ابن النيل، وهو يواجه التحدي، ولكن على الطريقة السلمية، وهي تعد انتصاراً لمفاهيم وقيم وتراث المجتمع.. إنه صراع سلمي لأبطال يمثلون قوة شكيمة الجماعة التي يأتون وينحدرون منها، ورفعة قيمها.

 

..في السير الشعبية

يحوز التحطيب مضمونا دراميا، في احد جوانبه، تظهره بجلاء ووضوح وندرة، تفاصيل السيرة الهلالية، وذلك من خلال فكرتي البطولة والفروسية فيها. كما ذكر المؤرخ هيرودوت في كتاباته عن صعيد مصر وريفها، ان تقاليد وموروثات هذا الفن الشعبي كموروث فني ورياضي، تبين مدى حب المصريين للتجمع والفرح وكذلك استعراض القوى وإظهار البطولة.

وأيضاً، يظهر التحطيب في مصر لدى البدو، في صحراء مصر. وهو إن دلّ ذلك على شيء فيدل على وحدة وتمازج المجتمع المصري بكل فئاته ومستوياته الاجتماعية، وتثبت ذلك فكرة الترابط وانتشار العادات والتقاليد في المجتمع كله.

وتصاحب فن التحطيب في صعيد مصر وريفها، الأغاني الشعبية والرقصات الفولكلورية في كل المناسبات، والتي يحتفل بها أهل هذه المناطق المؤثرة في التاريخ الاجتماعي والشعبي والتراثي في مصر.

 

عناصر

تتنوع الأغاني الشعبية المصاحبة لفن التحطيب حسب المناسبة، فهناك أغانٍ خاصة بالاحتفال بمولود جديد في الأسرة، أو الاحتفال بالحصاد، او الاحتفال بالأعراس. وأيضاً اغنيات لرقصات "التحطيب" خاصة بالاحتفال بالموالد المختلفة في هذه المناطق، والتي تُعتبر قلب مصر النابض بكل ما هو نفيس وعريق وتراثي وتاريخي، إنها منظومة مجتمع بدأ عند أعتاب النهر منذ سبعة آلاف عام.

وهناك عناصر رئيسية لرقصة التحطيب الرجالية، ومنها ما يغتني بالمضمون الدرامي لهذا الفن، عاكسا روح المنافسة، بين الانتصار والهزيمة، فالصراع ــ حتى السلمي منه ــ هو جوهر الحياة الدرامي كما يرى الفيلسوف أرسطو.

ويمثل الـ"البانتومايم" أو الفن الصامت، إحدى مفردات فن التحطيب، ويتجلى ذلك في بداية الاستعراض، عندما يلف الطرفان العصا في الهواء، على شكل استعراض يعكس التحدي والانتصار معاً. ومن الدروس المستفادة من فن التحطيب، تعليم القوة والتركيز والصبر وزهوة الانتصار وإظهار البطولة، واستعراض المرونة واللياقة البدنية. وكذا حضور الذهن في حالة تركيز قصوى، وكل ذلك يتم على خلفية من الموسيقى والرقص الإيقاعي الذي تقوم به النساء، وايضا التصفيق بإيقاع منتظم.

ولا مجال للعشوائية والقوة غير المنظمة في لعبة التحطيب، وإنما كل حركة فيها، محسوبة ومحكومة بأصول هذا الفن الذي يتعلمه الصغار، هؤلاء من هم بدأوا لتوّهم يخطون خطوة أولى في الرجولـة والشجاعـــة، وفي مجال القيم الجمالية النابعة من هذا المجتمع المصري، في الريف والصعيد والحضر.