"لؤلؤة موسيقية" هذا ما تصوغه تقانة وفرادة عمل موسيقي بمستوى مقطوعة: "كارمينا بورانا " للالماني كارل أورف، التي تعد واحدة من أشهر المؤلفات الموسيقية، وأكثرها شعبية في حقل الموسيقى الكلاسيكية ، ويضاف إلى ذلك اهميتها التاريخية، وما تسرده من مضمون تاريخي، يحكي سير وقصص ثورة رهبان أحد الاديرة في القرنين ال12 وال13 م.

 

لم يخمد بريق "كارمينا بورانا"، أو تتراجع مستويات ألقها وجاذبيتها، طوال العقود الماضية وحتى في الوقت الحالي، لا تزال تحظى باهتمام نوعي من قبل المنتجين والمسؤولين عن قاعات الحفلات، نزولاً عند رغبة الجمهور. وذلك بفضل مزاياها الكثيرة، إذ إن الأسلوب الذي اعتمده مؤلفها، نال استحسان جميع الأذواق، على اختلافها وتنوعها، فهي تلبي رغبات وتفضيلات أولئك الذين يبحثون عن متعة في الألحان البسيطة، وكذا من يبحثون عن العمق الفني، وذلك في تقنية التأليف للغناء والجوقة والأوركسترا. فمن يستمع إليها ستسيطر على كل أحاسيسه وجوارحه،.

كما ستحرك في داخله، حساً شاعرياً جارفاً مختلطاً بالهيبة الروحانية، فهي تخلق بحراً هائجاً من الفرح والحزن، ولكن قليلين هم الذين يعرفون اسم مؤلف، هذا العمل الموسيقي الشعري، أو ما الذي يختبئ في تلافيف مضمونه وأسطره، أو حتى مكنون لغة هذا العمل السيمفوني، أو بالاسم العلمي الكانتاتا.

 

مذاهب وترية

شهدت مرحلة بدايات القرن العشرين، بروز اعمال كثيرة لمؤلفين موسيقيين، اجتهدوا في البحث عن التجديد، محاولين الانتقال نحو عصر جديد، فابتكر الفرنسي كلود ديبوسي. ومعه عدة مؤلفين فرنسيين: (المذهب التأثيري الانطباعي )، الذي كان يهدف منه، الإيحاء دون إفصاح. وذهب كل من شونبيرغ والبان بيرغ، نحو (الموسيقى اللامقامية).

كما بحث سترافينسكي عن (الكلاسيكية الجديدة). وأما كارل أورف، مؤلف (كارمينا بورانا )، فقد دعا إلى التوقف عن التجارب، لئلا تذهب بجماليات الالحان البسيطة، لأن المشاهير من المؤلفين، فرضوا على الموسيقى نوعاً محددا من التجديد، بسبب تطور فنون الأداء، واتساع إمكانات الفرق الموسيقية.

 

مثلث محوري

الحب وقوة الحياة وسلطة القدر، تلك المجالات التي لا يمكن سبر أغوارها، طالما مثلت محور مفاهيم رئيسة لأعمال كارل أورف الغنائية الدرامية، واستخدم فيها البساطة كأداة للتأثير المباشر على المستمع، وكوسيلة للدلالة على القيمة الفنية، ولكن الحب بقي الموضوع المفضل لديه، في أغلب أعماله الغنائية الاوبرالية، وحتى المؤلفات المكتوبة باللغة البافارية القديمة.

وأولى أعماله كانت على التوالي: (القمر)، (أوديب الطاغية)، (أنتيجون). وهي أوبرات غنائية بحتة. وأما (كارمينا بورانا)، فهي تعد أشهر وأهم أعماله، إذ ألفها ما بين عامي 1935 و 1936. كما يعتمد عمله :(كاتيوللي كارمينا)، على قصائد الشاعر الروماني كاتيولوس. وبالنسبة لعمليه: أوبرا (انتصار أفروديت) وموسيقى (حلم ليلة صيف)، فهما أوبراليان غنائيان مسرحيان.

 

أغنية رهبان ثائرين

تعني "كارمينا بورانا" في اللغة اللاتينية: (أغنيات بويرن)، وهو اسم المخطوطة التي تتألف من 25 مقطعا شعريا ونثريا. ويعود تاريخها إلى مابين القرنين، الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، وكتبت نصوص المخطوطة، باللغة اللاتينية، وبخليط من الألمانية البافارية الجنوبية والعامية الفرنسية، وكلماتها لجماعة تدعى: (الجوليارد )، وهي تألفت من مجموعة من الرهبان والطلبة و الشعراء البافاريين، الثائرين على سلطة الكنيسة الكاثوليكية، في تلك الحقبة. واكتشفت هذه المخطوطة في الدير البينيديكتي في بويرن في المانيا، عام 1803. أما الان فهي محفوظة في المكتبة الوطنية في ميونيخ.

ونص المخطوطة الأصلي، مؤلف من مجموعة اغان، تزيد على الألف أغنية، وهي متنوعة المواضيع، فمنها: أغاني الربيع، الحب المجون. وهناك موضوعات أخرى تناقش سلطة الدين والحكم الاستبدادي. وهناك أغاني السكارى .

وقد انتقى كارل أورف منها، 20 مقطعاً، من نصوص (عجلة القدر)، وعمل على إعدادها توزيعها و تلحينها، خلال عامي 1935 1936، فجعل منها 25 أغنية، تؤدى من قبل جوقة كبيرة لها البطولة المطلقة في هذا العمل، واوركسترا سيمفونية ضخمة، ومغنين منفردين، الاول من طبقة (باريتون) أسند اليه أورف دورا يكون احيانا خارج نطاق مساحته الصوتية التقليدية.

وأما الالحان ذات الطابع الأنثوي العاطفي، فأسنده الى مغنية من طبقة (سوبرانو)، لانه يحتاج إلى طاقة صوتية كبيرة. وبالنسبة للصوت الأخير، فهو مكتوب لمغن من طبقة ( تينور وأحيانا كونتر تينور )، وحضوره قصير، لكنه متميز ولافت، خاصة حين يغني في محاولة تقليد صوت إوزَّة تعاني جراء تعرضها للشوي.

وقدَّم كارل أورف عمله ( كارمينا بورانا) للمرة الاولى، في فرانكفورت عام 1937، وكان قصده ليس مجرد تقديم نصوص لأغانٍ دنيوية، بل رسم صور سحرية تستخدم كل إمكانات العرض، للتعبير عن النشوة التي تخلقها مأساة القديم، تمهيداً إلى حلول شعور قوي بالحياة، مشابه لعواطف أولئك الفنانين الجوالين، بدلا من الأوهام الخيالية التي سادت في تلك القرون.

قسم كارل أورف العمل، الى ثلاثة أقسام، الأول يتحدث عن القدر والسلطة والحظ . والثاني فهو يتحدث عن احداث في الحانة يظهر فيها جو من الحماس. وأما القسم الثالث، فهو عن الحب وآلامه و سعادته.

 

3 أجزاء

يبدأ القسم الأول في "كارمينا بورانا" ضمن «القدر يضغط على العالم»، بغناء قوي للكورال، بمصاحبة الأوركسترا، ثم يتحول إلى لحن هادئ يتصاعد حتى يبلغ ذروة وافرة من القوة، وبعدها ننتقل إلى لحن شعبي بسيط يشبه إلى حدٍّ ما، ألحان الأغاني الراقصة الألمانية القديمة، يغنيه الرجال.

وما يلبث أن ينتقل بقوة الى الكورال كاملاً، ثم يعود الكورال بعد تمهيد ايقاعي، إلى أداء لحن جديد، حذر من طبقة ( باريتون)، ينشد لحنا هادئاً من دون مرافقة الآلة، وبتوقيع بسيط، له طابع المناجاة، ويُذكِّر بألحان الأناشيد الدينية، فيتصاعد صوت الكورال ملتفاً بصوت الأوركسترا، في ترديد لحن يبدو عابثاً راقصاً. فتعزف الآلات الوترية فاصلاً يقطعه صوت آلة الفلوت.

وهو يتضمن محاكاة لعندليب يغرد، ثم تمهد آلات النفخ النحاسية بطبقة درامية مؤثرة، لدخول الكورال الذي تتبادل فيه أصوات الرجال والنساء، أدواراً محددة في الترديد، المنخفض والقوي أخرى، ثم يختَتم أورف الجزء الأول بتناوب فريق الرجال والنساء، في ترديد لحن سريع، ثم يتحدان ليختما هذا الجزء، فجأة وبقوة. من ما جاء في هذا الجزء :

أيها الحظ كالقمر أنت متقلِّب

الفقر والسلطة يذوبان كالثلج.

أنت عجلة تدور بحفد دون رحمة المخلوق يتلاشى كي يصبح لا شيء

أنوح على جراح الحظ بعينين باكيتين.

أجلس على عرش الحظ متوَّجاً بإكليل من الورود الملوَّنة

دولاب الحظ يدور أنحدر محُتقَراً ويرتفع غيري إلى الأعلى.

وأما في الجزء الثاني :«في الحانة»، فنجد انه يعلو صوت مغني الباريتون، في لحن حماسي سريع الايقاع، ثم يظهر صوت التينور بشكل هادئ، مقلداً صوت إوزة تندب فيه حظها السيئ، فيقاطعه كورس الرجال بحماسة شديدة، ويبدو الكل يشحذ أسنانه استعداداً لتناول الاوزة، فيعود بعدها الباريتون لينشد ما يشبه النداء، وكذا يشرع كورال الرجال بالغناء الاحتفالي الذي يمثل حياة الحانات الماجنة . ومن ما تقوله كلمات الاغنية هنا:

احترق من الداخل بغضب عنيف

إليكُم قلبي بمرارة

مخلوق من رماد أنا كالورقة في مهب الريح

تائه كسفينة دون ربَّان

الأصفاد لا تقيدني والمفاتيح لا تسجنني

أقدِّم نفسي للرذيلة غير آبه بالفضيلة

لدي رغبة في متعة الجسد أكثر من رغبتي إلى الخلاص

روحي ميتة، لذا فأنا أسعى وراء شهوة الجسد

ويمهد كورس الاطفال، في الجزء الثالث: « في قصر الحب»، مع آلة الفلوت، يمهد بهدوء لمغنية السوبرانو، لتغني لحنا شاعريا بطيئا. ثم يظهر مغني الباريتون، ليشدو بأغنية مناجاة هادئة، ويُقاطعه صوت النساء بالتبادل مع فريق الرجال. ثم تستأنف السوبرانو الغناء، كرد على أغنية الباريتون، الذي ما يلبث أن يعود الباريتون لغناء لحن حماسي عاطفي النزعة، تتخلله مداخلات لأصوات الرجال والنساء في غناء مازح، تكسره، فجأة وبقوة، مغنية السوبرانو التي تؤدي لحنا عاطفيا قصيرا. ثم يجتمع الكورال والاوركسترا بحرارة وقوة ليعودا بنا الى اللحن الاول، والذي بدأ به العمل، ويستمر في تصاعد نحو خاتمة قوية مجلجلة:

كيوبيد يطير في كل مكان الفتاة التي من دون عشيق تفتقد كل اللذَّات،

في أعماق قلبها تحتفظ بالظلمة

إنه لقدر مرير

النهار والليل وكل شيء يعمل ضدي

ارحموني لأني حزين، علاجي قبلة منعشة

يوجد في قلبي تأوهات لأن جمالك يُؤلمني

في الميزان شعوري مرتعش،

لكني أختار ما أرى

وأسلم رقبتي إلى الكدّان اللطيف

إنه وقت مرح أيتها العذراوات

أيها الشبان افرحوا معهن .