«إن سمة رئيسية من سمات لغة البشر هي أنها تحتمل الكذب وتزييف الوقائع». هكذا برر الفيلسوف والروائي وعالم «السيمائيات» امبرتو إيكو، سبب انشغاله بموضوع المؤامرة في مجمل أعماله الفكرية والأدبية، في حواره مع صحيفة الـ«غارديان» البريطانية، بمناسبة صدور روايته الأخيرة «مقبرة براغ»، والتي تتابع سيرة نشوء بروتوكولات حكماء صهيون، مؤكداً أنه غير ملتصق أو مرتبط بحب وعمق مع عمله « اسم الوردة».

 

تناول إيكو في الحوار، مجموعة من المواضيع الأخرى، ومنها، وضع إيطاليا في ظل حكم رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، وظروف نشأة أشهر رواياته «اسم الوردة»، ولم يتردد في الإشارة إلى أنه اصبح كارهاً لهذه الرواية، وعدد الأسباب التي تدفعه إلى هذا الشعور.

 

«نهاية محنة»

يقول إمبرتو إيكو الذي سيبلغ الثمانين من عمره في يناير المقبل: «لقد وصلت إلى نهاية محنتي». وهو يشير بذلك إلى رحلته حول العالم لترويج روايته الجديدة «مقبرة براغ»، والتي امتدت أكثر من ثلاثة أسابيع، مضيفاً أنه يفقد البوصلة أحياناً في أي مدينة يوجد بها.

المؤامرات إجمالاً و»برتوكولات حكماء صهيون» تحديداً التي يتناولها كتابه الجديد «مقبرة براغ» هي مواضيع متكررة في أعماله، فلماذا تشغل بال إيكو هذه البروتوكولات؟

يجيب إيكو عن ذلك: «بوصفي طالب علم، فإن ما يثير اهتمامي في فلسفة اللغة والسيمائيات، أي علم العلامات والدلالات والرموز، أو أي شيء آخر، هو أن سمة رئيسية من سمات لغة البشر هي أنها تحتمل الكذب، فالكلب لا يكذب، وعندما ينبح فإنه يفعل ذلك ليشير إلى وجود أحد ما خارج المنزل..إن المسافة من الكذب إلى التزوير والتزييف ليست بعيدة..

 وسبق لي أن كتبت مقالات ذات طابع فني حول منطق التزييف والتحريف وتأثيره في التاريخ، وأنا أعتبر (البرتوكولات) أحد أشهر أعمال التزييف وأكثرها فظاعة».

 

إغراء المؤامرة

يؤكد ايكو، في الحوار نفسه، أن ما يجذبه ليست المؤامرات بحد ذاتها، وإنما حالة جنون الاضطهاد والارتياب التي تسمح بانتشارها، ويضيف في هذا الخصوص: «يوجد العديد من المؤامرات الصغيرة ومعظمها مكشوف أمرها، لكن جنون الاضطهاد والشك حيال مؤامرة عالمية يعد أكثر قوة لأنه يتصف بالأزلية، وهذه المؤامرة العالمية يستحيل اكتشافها، لأنه لا يعرف من يقف وراءها، وتشكل إغراء نفسياً لفصيلة البشر».

ويضيف: «لقد كتب كارل بوبر مقالة جميلة عن هذا الموضوع، قال فيها إن المؤامرة بدأت مع الشاعر الإغريقي هوميروس، وأن كل ما حدث في طروادة خططت له الآلهة في اليوم السابق على قمة جبل أوليمبوس، وكأنها طريقة لنفي أي شعور بالمسؤولية عما حدث.. ولهذا، تلجأ الدكتاتوريات- برأيي - إلى فكرة المؤامرة العالمية كسلاح من أسلحتها».

تلقى الكاتب المبرز تعليمه، في السنوات الأولى العشر من حياته، على يد فاشيين في المدرسة، وحول ذلك يقول: «كانوا يستخدمون نظرية المؤامرة الدولية». ويلفت في هذا الخصوص إلى أن الأمر بالنسبة لهتلر كان شبيهاً بذلك، وأن رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، تحدث أيضاً عن مؤامرة مزدوجة من إعداد القضاة والشيوعيين في كل حملاته الانتخابية، في الوقت الذي لم يعد هناك الكثير من الشيوعيين.

ويشير إيكو إلى أنه لم يكن من المعجبين برئيس الوزراء الإيطالي السابق. ولطالما كان يمثل شخصية بارزة في اليسار السياسي. كما أنه عارض برلسكوني منذ تسلم الأخير مهامه كرئيس للوزراء، في منتصف التسعينات من القرن الماضي، ويبدو ايكو مسروراً بسقوط مرتاد الحفلات الكبير هذا، ولكنه يحذّر من حذفه من الحياة السياسية الإيطالية، مبيناً أنه قد يحاول العودة بعد استحقاق موعد الانتخابات في عام 2013.

ويتابع في هذا الشأن : «كان برلسكوني عبقرياً في مجال التواصل، وإلا لما أصبح أبداً على هذا القدر من الغنى، وحدد هدفه من البداية، مستهدفاً متوسطي العمر الذين يشاهدون شاشات التلفاز. فالشباب لا يشاهدون التلفاز، بل يوجدون على الإنترنت.

والناس الذي يؤيدون برلسكوني هم أساساً من السيدات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين الـ 50 و60 عاماً، إلى جانب المتقاعدين عموماً، الذين يشكلون قوة انتخابية هائلة في بلاد تتميز بإيغال سكانها في العمر، ويرى أن جاذبيته تستمد من شعار «ادفعوا ضرائب أقل».

«كيف يمكن لثقافة إيطالية على هذا المستوى الفكري والفني الرفيع أن تنتخب مثل هذا المهرج؟». رداً على حيثيات وأبعاد هذا السؤال، يقول إيكو: «كان برلسكوني معادياً للفكر بشدة، وكان يتفاخر بأنه لم يقرأ رواية على امتداد 20 سنة.

وكانت هناك مخاوف من المثقفين كقوة حساسة، وبهذا المعنى كان هناك صدام بين برلسكوني وعالم الفكر. لكن إيطاليا ليست بلاد فكر، في مترو الأنفاق في طوكيو الجميع يقرأ، أما في إيطاليا فإنهم لا يقرؤون. ولا يفترض إطلاق أحكام على إيطاليا من واقع أنها أنتجت أمثال رافاييل ومايكل آنجلو».

 

رد

كتاب إيكو الجديد هوجم من قبل البعض لكثرة تناوله نصاً معادياً للسامية، لكنه يجادل قائلاً، إن بروتوكولات حكماء صهيون، موضوع بحث الكتاب، يمكن إيجادها على الإنترنت بسهولة، ويضيف: «الكاتب ليس مسؤولاً عن قراءة منحرفة لكتابه». وهل يزعجه الردود المتفاوتة على عشرات الروايات التي ألفها منذ كتابه رواية «اسم الوردة»، التي دفعته إلى الشهرة في أوائل الثمانينات؟

ويقول: «لطالما صدمني مدى اختلاف وجهة نظر النقاد حيال رواياتي، اعتقد أنه يفترض تقييم الكتاب بعد صدوره بـ 10 سنوات، وبعد قراءته مراراً وتكراراً. لقد وصفت دوماً بأنني مثقف وفلسفي وتصعب قراءة كتبي، ثم كتبت رواية بعيدة كلياً عن الثقافة، ومكتوبة بلغة بسيطة هي «الشعلة الغامضة للملكة لوانا».

تعد من بين مجمل رواياتي، الرواية التي حصدت أقل نسبة من المبيعات. أعتقد أن الناشرين وبعض الصحافيين هم فقط من يظنون بأن الناس تريد الأشياء البسيطة. لكن القراء ضاقوا ذرعاً بالأشياء البسيطة، ويريدون ما يشكل تحدياً لهم».

لدى إيكو مهنة مميزة في العالم الأكاديمي، وهي تمتد لفترة 30 عاماً، إلى جانب برامج تلفزيونية ثقافية، وقد عمل محرراً في ميلان قبل تأليف روايته «اسم الوردة». فلماذا يشعر بالحاجة إلى إضافة أدب قصصي إلى أعماله الضخمة أصلاً؟

يشرح الكاتب اسابا ذلك:» إن هذا الأمر جاء جزئياً عن طريق الصدفة. فقد طلبت مني صديقة كتابة رواية بوليسية قصيرة لسلسلة تلفزيونية جديدة كانت تقوم بإعدادها. فقلت لها إنه إذا ما قمت بذلك، فإن هذه الرواية البوليسية ستكون في زمن القرون الوسطى، وستتألف من 500 صفحة.

وكان هذا يفوق ما طلبته للسلسلة التلفزيونية، لكن الفكرة استوطنت أحشائي». ويلفت ايكو هنا إلى أنه في نهاية المطاف، كان سيكتب روايات من دون تدخل صديقته. وفكرة تسميم راهب بدت فكرة جذابة، وكانت لديه قائمة بأسماء رهبان مودعة في درج مكتبه لاستخدامها عندما تحين الفرصة. ويتابع: «لطالما كان لدي نبض روائي، فقد كتبت قصصاً ومقدمة روايات منذ كنت في العاشرة من عمري.

ومن ثم قمت بإرضاء ذوقي في سرد القصص من خلال كتابة المقالات، وكل أبحاثي تتميز ببنية «من هو المجرم؟». ويبين إيكو أنه كان أحد أساتذته، قد أشار إليه بأن أطروحته حول توماس الإكويني كانت تتصف بهذه البنية، إذ يجري التوصل بشكل مثير إلى الاستنتاج بعد مسار طويل من التكهنات.

يضيف: «أدركت أن ما يقوله صحيح وأن البحث يفترض أن يجري على هذا المنوال. ولقد قمت بإرضاء نبضي للسرد عندما كان أولادي في سن باكرة بقراءة القصص لهم، وعندما كبروا شعرت بالحاجة لكتابة قصص من الخيال. وقد حصل الأمر معي كما يحصل مع من يقع في الحب».

أسباب

بعد روايته «اسم الوردة» ذاع صيت إيكو كروائي، لكن تبين لاحقاً أن الارتقاء إلى مستوى هذه الرواية ليس أمراً سهلاً. وهو يعترف قائلاً: «أحياناً أقول إنني أكره رواية «اسم الوردة» لأن الكتب التالية كانت ربما أفضل منها. لكن هذا يحصل مع العديد من الكتاب. يستطيع غابرييل غارسيا ماركيز أن يكتب 50 كتاباً، لكن سيذكر دوماً كتابه «مئة عام من العزلة»، وفي كل مرة انشر فيها رواية جديدة، ترتفع فيها مبيعات «اسم الوردة».

ويعلق ايكو على الفيلم وعلاقته بالرواية: « إن أي فيلم لا يمكنه القيام بكل ما يمكن أن يقوم به الكتاب، فهو مجبر على اختيار بعض عناصر الكتاب دون أخرى، مثلاً الجانب اللاهوتي والجانب السياسي. (ضاحكاً): الفيلم لطيف، وقد قيل لي إن فتاة دخلت إلى أحد متاجر الكتب وبعد رؤية الكتاب قالت:(لقد صنعوا من الفيلم كتاباً).

طقوس حياتية ولمحات إبداعية

باع كتاب «اسم الوردة» ولا يزال يبيع نسخاً بالأطنان، ولقد جعله الكتاب غنياً ومشهوراً ومطلوباً، لكنه اختار الاستمرار في التعليم في جامعة بولونيا، وقائمة أعماله عن اللغة والثقافة والإيمان كثيرة. وما وراء إيكو الروائي هناك الفيلسوف والناقد الأدبي. وهو ترعرع في ظل أسرة لم تكن تقتني الكثير من الكتب من أوساط «الطبقة البورجوازية الصغيرة»، ولكن جدته كانت تعشق القراءة، وهو لا يزال يقرأ بنهم. والمكتبتان اللتان يمتلكهما في البيوت التي يت

شارك بها مع زوجته الألمانية المولد رنات رامج في ميلان وريميني، تحوتيان على 50 ألف كتاب، بما في ذلك بعض الكتب النادرة.

ويقال إن إيكو يبني رواياته من كتب أخرى، وروايته « مقبرة براغ» تستكشف روايات القرن التاسع عشر التي جرى تزييفها في بروتوكولات حكماء صهيون لتبني منها رواية واحدة. و»الروح الرئيسية» تعود لألكسندر دوما لاسيما روايته جوزيف بلسامو، وعملية التناص، أي توليد نص من نصوص مختلفة هي اسم اللعبة الخيالية التي ينسجها إيكو.

ولقد وصف الكتب بأنها «ممرات العقل». وساهم أخيراً في كتابة رسالة حب مطولة للنص المطبوع الذي يدعى «هذه ليست نهاية الكتاب». لكن هذا لا يجعله ثورياً معادياً للثورة الرقمية، ذلك أنه يحمل معه في هذه الرحلة العالمية «أي باد» كان قد حمل عليه 30 كتاباً. فأجهزة القراءة جيدة للرحلات الطويلة ولديها فوائد لناحية المراجع، لكن القراء الملتزمين يظلون تواقين دوماً للأمور الملموسة.

وهو يصيغ هذه المعضلة قائلاً «ليس كتاب «بيتر بان»، بل كتاب «بيتر بان» الذي يخصني». يجيب ايكو رداً على سؤال عن: كيف سيذكره الناس مستقبلاً؟ : «اترك الأمر لكم، للروائي في العادة حياة أطول من الأكاديمي، إلا إذا كان هذا الأخير على مستوى إيمانويل كانط أو جون لوك. والمفكرون المشهورون على مدى الخمسين سنة الماضية أصبحوا طي النسيان».

وهكذا يشير إلى أنه ولهذا السبب، فإنه يرضى مكرهاً تذكره لروايته «اسم الوردة» بدلاً من مساهماته في مجال «السيمائيات»؟

ويضيف: «في البداية كان لدي انطباع أن رواياتي لا علاقة لها باهتماماتي الأكاديمية، ومن ثم اكتشفت أن النقاد وجدوا روابط كثيرة بينهما، ومحررو (مكتبة الفلاسفة الأحياء) قرروا أن رواياتي يفترض أخذها بعين الاعتبار كإسهامات فلسفية. لذا فإنا استسلم وأقبل بالفكرة التي توصلوا إليها». ويتابع: (اسم الوردة) و (جماليات توماس الإيكويني) و(السيمائيات) و(فلسفة اللغة). كلها تشكل قطعة واحدة، لكن مبيعاتها هي التي تختلف على مستوى العالم».