كان ثمة خطاب مسرحي عربي يتغير ويتبدل، بين الرابع والخامس من يناير، مطلع العام 2012، وبعد عام على اندلاع ثورات الربيع العربي، التي استطاعت فيه شعوب من الوطن العربي، ان تنزع عنها غطاء الخوف والصمت وتخلخل اركان الدكتاتوريات والتابوهات السلطوية.
أخذ هذا التغيير النوعي في رؤى المسرح العربي، يستمد معينه وطابعه من مضمون وسمات الروح التي انبعثت في ميادين التحرير العربية، وعلى شاكلة هتاف الجماهير، راح ثلة من المسرحيين ينفضون الغبار عن حديث مسرحي، لطالما بقي خافيا في الدهاليز، ومتواريا خلف الأبواب المواربة.
فقد رأى المسرحيون انفسهم في مناخ مختلف، وكان عليهم ان يعودوا الى تجاربهم المسرحية ليتأملوها في مسيرة عقود من التواري والانحاء والخشية والخوف والعروض المبطنة في خطاباتها الثورية.. كما ذهبوا في تأمل مسرحهم التحريضي الذي مارسوه وسط سطوة السلطة، لكي يثوروا على الشر، ولكي يكونوا قريبين من متفرجهم الذي يأمل في النجاة من البطش.
فوجدوا انهم أسسوا شيئا لتلك الثورات الربيعية التي جاءت فيما بعد.. فالعودة الى نصوص سعد الله ونوس، وتلك العروض التحضيرية، شابهتها عودة استرجاعية لعروض المسرح الخاص في مصر، وعروض مسرح المنتدى الذي جاء به البرازيلي اوجيستو بوال الى مصر، وراجعوا تجربة المسرح الجزائري الذي تأثر بمبادئ الثورة الأولى.
كسر التابوهات
إن خطاب «المسرح والتغيير» وهو الشعار الذي رفعه ملتقى الشارقة التاسع للمسرح العربي، بين تلك النخبة من المسرحيين المثقفين، كان يعيد الاسئلة وينتجها في قضية دور المسرح فيما بعد ثورات الربيع العربي.
فالمشاهد التي اقترب حالها من السريالية في ساحات التحرير، اصبحت مؤثرة بشكل حاسم على عقلية المسرحي العربي الملتزم، فالتابو الذي لا تهتز أركانه، القي على قارعة الطريق، واحترقت عرباته، وتهدمت مبانيه.. ومشهد احتراق مراكز الامن، واختراق المتظاهرين بالزنانين السرية التي كان يعذب فيها المواطن العربي، سيقبع في الوعي، والوعي الباطن لدى هذا المسرحي الملتزم..
إنها رياح التغيير التي هبت على الأوطان، فهبت كذلك على كواليس المسرح وهزتها لتنفض عنها غبار الخوف. هذا ما يخرج به من تابع جلسات الملتقى المسرحي العربي التاسع الذي عقد في الرابع والخامس من يناير الماضي، وشاركت فيه نخبة مميزة من المسرحيين العرب، الذين يمكن وصفهم بأنهم جيل التغيير في المشهد المسرحي العربي.
المسرح الجديد
الناقد المسرحي الجزائري الدكتور حميد علاوي، شكلت ورقته التي قدمها للملتقى بمثابة بحث في انطولوجيا المسرح العربي في مسايرة الثورات والتقلبات السياسية على الساحة العربية. وأسهمت في تثوير حوارات ونقاشات عن دور المسرح في التغيير وتعزيز مبادئ الثورات وانتصارها على الشر. فنجده يطالب منصات المسرح العربية بمتابعة التوجهات الديمقراطية واستلهامها.
ويقول في هذا السياق: إن التحولات التي تشهدها كثير من البلدان العربية اليوم، ينبغي أن تجد مكانها على منصات العروض المسرحية، فهذه الرجات الديمقراطية هي المناخ الطبيعي الذي يزهر فيه المسرح ويزدهر، فالرجات التي شهدها المسرح في القرن التاسع عشر وفي كل زمان، كما يقول جان كولوانو، ما هي إلا علامات مرئية عن الحركات التي تحرك وتهز البني الاجتماعية الحديثة.
ويضيف: إن الديمقراطية التي تهب ريحها هذه الأيام، هي المناخ الحي الذي يتيح طرح كل الأفكار البناءة الموجهة للمجتمع نحو الأرقى والأفضل، فالمسرح اليوناني لم يزدهر إلا حينما بلغت الديمقراطية الذروة، فكانت المسرحيات تنتقد الحاكم كريون وهو جالس في الصفوف الأمامية يتابع العروض خلال المسابقات
الموسمية التي تشرف السلطة على تنظيمها. وكذلك كان الشأن خلال القرن السابع عشر في أوروبا، فازدهرت الحركة المسرحية، وتأسست النظريات وظهرت الاتجاهات والمدارس المختلفة . وخشية من وقوع المسرحيين العرب في مفهوم الانبهارية، وهم يتلقون هذا الانقلاب السياسي الوجودي، يطالب الدكتور علاوي، المسرحي العربي بضرورة استلهام المتغير الجديد، بمزيد من العمق والمساحة الكافية من التأمل.
ويتابع: الاستجابة الثقافية والفنية لما يحدث لا ينبغي أن تكون انبهارية متعجلة، أو تقودها أغراض تجارية متسرعة فلا يتمخض ذلك عن شيء.
فمن المنطقي أن يكون هناك فارق في توقيت الاستجابة للمجريات الجديدة، فإن كانت استجابة الإعلام سريعة وآنية فإن استجابة الفنون ينبغي أن تكون متأنية وواعية ومدركة. فقد تظهر إرهاصات تلك الأحداث في الأعمال الفنية قبل وقوعها، ولكننا لا نطالب الفنان بالتسرع في تناولها، بل نود أن يبني منها ويؤسس في ضوئها، آفاقا إبداعية جديدة تشكل ثورة فنية شاملة .
كما يشدد د. علاوي على ضرورة ان يكون هناك مسرح عربي يستثمر الثورة من اجل إحداث ثورة فنية تجسد القطيعة مع كثير من الاعمال المرتجلة، أو الاستهلاكية.
ويقول في هذا الصدد: إن ليل المجاملات في الثقافة العربية ينبغي أن ينجلي، ويبزغ فجر جديد يؤسس لنهضة ثقافية حقيقية في مناخ مثمر، فالواقع العربي أكد في أكثر من مناسبة أنه لا تعوزه لا المواهب ولا الإمكانات، ولذا فالنقد ينبغي أن يظل حارس الأمان الذي يمنع دخول الغث إلى مملكة الفن العربي .
ظروف مؤاتية
يرسم الدكتور علاوي ملامح التجديد، من اجل مسايرة التغيير في مطالبات عدة حينما يؤشر الى ضرورة ان يجد المسرح مكانته في المنظومة التعليمية في كثير من البلدان العربية، فبرأيه، لا ينبغي أن يبقى مجرد هواية يلجأ إليها من يرغب بعد أن يستنفد كل فرص النجاح في تخصصات أخرى.
فانتشار الثقافة المسرحية في الأوساط الجامعية وتجذرها في الطبقة الوسطى للمجتمعات العربية، فهو ما يهيئ الظروف المؤاتية لميلاد مسرح حقيقي بملامح عربية، لغة وفكراً ووجداناً.
المسرح المستقل
الكاتبة والباحثة المسرحية المصرية رشا عبد المنعم، كانت تحوز مدخلاً لحركة التحريض التي قام بها المسرح المستقل في مصر، وهو مسرح، جاء نتيجة ثورة بعض المسرحيين الشباب على التعاطي الذي قام به مسرح الدولة في مسايرته ومجاراته لخطاب السلطة.
وقدمت رشا عبد المنعم، نماذج وأمثلة على العقبات التي وضعها النظام امام حركة استقلال المسرحيين بخطابهم المناوئ والمناهض لأفعال السلطة، وكذلك للخطاب المسرحي الاستهلاكي الذي أرادت الدولة ان يلعبه المسرح في حياة الناس..
وطرحت سؤالاً أرادت منه ان يكون مدخلاً لورقتها المقدمة لمحور المسرح العربي والتغيير. وأضافت: " في هذه اللحظة التاريخية المفارقة في تاريخ وطننا (مصر) وفي تاريخ الوطن العربي، والتي تمثلت فيما يسمى بالربيع العربي: هل لنا أن نتساءل إلى أي مدى أسهم المسرح في تكوين هذا الوعي المفارق الذي أنتج ثورات هذا الوطن ؟
وتجيب رشا عبد المنعم، عن سؤالها: " كان وعي الدولة بخطورة المسرح القائم، على خلق حالة من الجدل والحوار بشأن كل القضايا والإشكالات الاجتماعية والسياسية، هذا الجدل الطازج، لطالما كان يخشاه النظام.
ومن هنا عمد إلى تهميش المسرح، خاصة بعد أن بدأ المسرح المصري، عقب نكسة 1967 يتحول عن المسار الذي رسم له سلفاً، كداعم لمبادئ ثورة 23 يوليو، فبات راصداً لمناحي الفساد التي أدت بنا إلى النكسة، وبذا بدأت عملية تهميش ممنهجة لتقليل فاعلية هذا الفن وعزله عن جمهوره وكان مشروع مسرح التلفزيون إحدى آليات نزع الدسم المسرحي.
وتحويل الفن المسرحي إلى مفهوم سياحى ترفيهي تجاري، رغم أن تجارب مسرح التلفزيون لم تخل من بعض التجارب المسرحية المهمة، وبمنهجية واضحة للعيان، استخدمت المؤسة الرسمية كل الآليات التي من شأنها تسطيح وتهميش الفن المسرحي ومصادرة دوره الأساسي كساحة جدل وحوار خلاقة.
ومن ثم تخفيض ميزانياته وتحويل الفنان إلى موظف بإنشاء عدد من الفرق التابعة للدولة وتوظيف الفنانين. وهو ما يجعل الأمر مختلطا على الفنان، ما بين واجبه كفنان، وبذا عليه أن يشعر بنبض الشارع ويكون لسان حاله ووضعيته كموظف بالدولة فيحصل على راتب إعاشته منها وعليه أن يلتزم برؤية وخطاب المؤسسة الرسمية.
