قد تستغرب عزيزي القارئ إن علمت أن العطر أصله عربي، وأن العرب هم أول من أبدعوا في تركيبه، ووضع الكلمات المرتبطة به وبأدواته، وقد تستغرب أكثر إن علمت أن أوروبا وفرنسا تحديدا التي تعتبر مركزا للعطور لم تعرفه إلا في القرن التاسع عشر، وقد وصلها عن طريق فينيسيا الإيطالية.
تحدثنا د. سلمى محمد قريشي، خبيرة الفنون والآثار الإسلامية، عن جذور العطر الذي تتبعته في إطار مشروع حفظ التراث الشمّي العربي الإسلامي، بهدف إنشاء متحف للعطر العربي: «تعتبر العُطارَة من الفنون العربية الأصيلة التي ارتبطت بتاريخ الجزيرة العربية قديما وحديثا وقد ازدادت أهميته بمجيء الإسلام، وقد ساهم التفوق العربي في الكيمياء وعلم النبات في تطوير صناعة العطور وانتشارها في العالم الإسلامي، ولا تزال جذور هذا الفن واضحة المعالم في منطقة الخليج والإمارات من خلال الممارسات اليومية في التعطّر وحرق البخور.
ومنذ القدم عُرف جنوب الجزيرة العربية بخصوبة تربته وامتلاكه لأشجار المرّ واللبان الذي ينبت في منطقة الشّحر (صلالة)، والتي بفضلها أطلق عليها مؤرخو اليونان القدماء «العربية السعيدة»، وقد وصف الرحالة «أغاترشيد» (100 ق. م) سواحل جنوب شبه الجزيرة العربية بأنها عَبِقة برائحة البخور وتبعث في الزائر إحساسا لا يوصف من المتعة وانشراح النفس»، ما حرك أطماع القادة مثل الإسكندر المقدوني للاستيلاء على مناطق اللبان.
وظائف متعددة: وقديما كان للعطر وظيفة دينية، حيث كان يستخدم في المعابد فقط، وعثرت الحفريات الأثرية في كلّ من جنوب عمان وجنوب اليمن خاصة «مأرب» عاصمة سبأ، و«شبوة» عاصمة حضرموت، على مباخر قديمة تعود إلى أكثر من 4000 سنة، نقشت عليها إشارات تاريخية باللغات العربية القديمة المقروءة تكشف عن أسماء الآلهة والأفراد وأنواع العطور المهداة. بينما غلب عليه الطابع الطبي أو العلاجي لدى اليونان والروم، في حين اتخذ مفهوم الطيب من حيث الاستمتاع الحسّي بالروائح عند العرب».
طريق البخور: خلال بحثها تتبعت د. سلمى طرق الرحلات التي كان العرب يسلكونها في تجارتهم، والتي اطلقت عليها اسماء عدة منها «طريق البخور»، تقول: «هيمن العرب منذ القدم على طرق التجارة البحرية والبرية، حيث كانت سفنهم تغادر ميناء عدن وهو من أقدم موانئ المنطقة ـ باتجاه الهند لإحضار البهارات والعطورات والأعشاب الطبية القادمة من جزر الشرق الأقصى، ثم تعود ادراجها للقاء القوافل العربية التي تُحَمَّل بالبضائع المستوردة والبخور العربي لتنقله براً إلى ميناء غزة ومنه إلى بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث ساد الاعتقاد أن جنوب الجزيرة العربية مصدر البهارات والأعشاب.
وتقديرا لأهمية العطر التجارية أطلق العرب على القافلة أو العير التي تحمل الطيب اسم «لطيمة»، وسلكوا في تجارته طرقا مختلفة تحددها الظروف الطبيعية والسياسية، وقد سميت بطريق البخور، وحسب المعطيات التاريخية المتوفرة لدينا وبالاستناد على ما اكتشفه الأثريون من معالم، فقد قدرت مسافته الإجمالية بـ 2560 كم، تقطع في 66 يوما أي بمعدل 41 كم يوميا، وهو معدل سير الجمل في الجزيرة العربية.
وعند الحديث عن طريق البخور، لا بد من ذكر رحلتي الشتاء والصيف اللتين دأبت قريش على القيام بهما سنويا، وعرفت الطريق البرية التي كانت تسلكها بالطريق التّهاميّة وهي تمتد من عدن جنوبا إلى غزة شمالا، في حين سمي الطريق الذي كانت تسلكه قريش من مكة إلى الشام ومنها إلى مصر عبر تبوك ومدين بالطريق التبوكية، وكانت مدينة بُصْرَى حوران (سوريا) من أهم محطاته، وهي تعتبر أول مدينة وصلها الرسول عليه الصلاة والسلام في شبابه قبل مرحلة النبوّة في تجارة مع عمه أبي طالب الذي كان عطارا.
وقد تمتّعت القوافل القرشيّة بالأمن والحماية الكاملة أثناء رحلاتها، للمكانة التي كان يتمتع بها تجار قريش لدى الملوك والأمراء ورؤساء القبائل بحكم مجاورتهم للحرم وخدمتهم للكعبة، وارتفعت تلك المكانة بعد واقعة الفيل، وصار كل قرشي إما تاجرا أو وسيطا.
أسواق الطيب
ونتيجة لارتباط المنطقة العربية بالطيب فقد اشتهرت بعض الأسواق التي كانت تبيعه وتصدره ومنها «سوق عكاظ» الذي كان يعد أكبر مركز ثقافي وتجاري في مكة والحجاز، وظل قائما حتى عام 149 ه، و«سوق صنعاء» الذي اشتهر ببيع الزعفران والأصباغ وعطر الغالية (عطر رسولنا الكريم)، و«سوق عدن» الذي اشتهر ببيع أجود أنواع الطيب والعطورات من الهند والصين مثل العود والصندل والعنبر من مقديشو، و«سوق الشّحر» الذي عرف بتجارة اللبان والمّر وينسب إليها أجود أنواع العنبر الشحري المستخرج من البحر،
و«سوق هجر» وعرف بتجارة العنبر ومسك دارين من الهند عبر ميناء دارين المطل على الخليج العربي، وذكرت الكتب أن كسرى كان يرسل إليها اللطائم المحملة بالطيب لتعود إليه بالتمور، و«سوق عُمان» التي عرفت بتجارة العنبر وبقي سوقها يقام في موسمه حتى 193 ه، و«سوق دبا» الذي كان يعد منفذا للبضائع العربية المتجهة للشرق الأقصى، وعرف بتجارة المسك، والعود، والقسط، والكافور، والزعفران.
وعندما بلغت تجارة العطور أوجها في العصر العباسي، انشئت لها أسواق خاصة كانت تسمى «أسواق العطارين»، ومن أشهرها «سوق بغداد»، حيث بلغ عدد أصناف العطور والعقاقير التي يستوردها عن طريق البحر عبر مدينة البصرة نحو 1479 نوعا.
عطارون وعطارات
عرف العرب مهنة تركيب العطور في فترة ما قبل الإسلام، وكانت من المهن الرفيعة التي لا يمارسها إلا نخبة القوم، وقد نجحوا في توليف تركيبات عطرية مختلفة كانت محل تباه، وكانوا يحفظونها في قوارير خاصة ويصدرونها إلى بلاد السند والهند وفارس والروم، وسميت هذه الخلطات بـ «الطيب المعمول» وما زال هذا اللفظ متداولاً حتى الآن في بعض المناطق الخليجية.
واشتهر بهذا الفن من الرجال عم الرسول (ص) أبو طالب بن عبد المطلب الذي كان يبيع العطر في آخر النهار، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وهشام بن المغيرة المخزومي والد أبي جهل، وأمية بن خلف الجمحي وشيبة بن ربيعة. أما من النساء اللواتي مارسن مهنة العطارة وبرعن فيها: مليكة والدة السائب بن الأقرع وأسماء بنت مخرمة أم أبو جهل التي كانت تستورد العطر الجيد من اليمن وتبيعه لنساء قريش في قوارير، والحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد من بنات عمومة خديجة أم المؤمنين.
ازدهار صناعة القوارير
أدّى انتشار تركيب العطور إلى ازدهار صناعة القوارير والمباخر في كل من سوريا ومصر، وبلغت أوجها في الفترتين الأيوبية والمملوكية، وكانت قنينات العطر تصنع من البلور الرقيق والشفاف وتزخرف بالذهب والميناء، أما المباخر فكانت تصنع من النحاس المُطَعّم بالذهب والفضة، ويوضع على بعضها علامات الصليب وتُصدَّر إلى العالم المسيحي في أوروبا. وصنّف العرب أدوات صنع الطيب والأواني التي يُحفظ فيها وأبدوا معرفة بأنواعها وأشكالها، والمتصفح للمعاجم العربية القديمة سيجد الكثير من الأسماء التي لم تعد متداولة اليوم مثل: البالة، السَّفْط، التّأْمورة، الحُقَّة، الحُنْجورة وهي قارورة طويلة العنق وضيقة الفم تشبه الحنجرة، والحُنْجود والحَوْصلة وهما آنيتان خاصتان لحفظ عطر الذريرة.
غسان خروب
