تمضي هذه الحلقة من الكتاب في الحديث عن مرحلة التأسيس بالنسبة لحركة فتح وبدايات العمل العسكري المسلح الذي انطلق في 1 /1/ 1965. ودور ياسر عرفات في الإعداد لهذا العمل من خلال طرحه شعار «فوق الصفر تحت التوريط» والذي يعني التزام الحركة بنهج في العمل العسكري يواصل النضال من دون توريط الأنظمة العربية في حرب مع إسرائيل. ومع ذلك، فقد وجهت الاتهامات لفتح فيما عرف بالتاءات الثلاث وهي: توريط، توقيت خاطئ وتنسيق معدوم.
ويشير الكتاب إلى ما قدمته سوريا من دعم للثورة الفلسطينية من خلال احتضانها لحركة فتح وإنشائها أول قاعدة عسكرية للتدريب على العمل الفدائي. ولكن تلك العلاقة بين سوريا وحركة فتح لم تخل من أزمات وتوتر، فقد اعتقل عرفات مرتين في سوريا قضى في إحداها واحداً وخمسين يوماً في سجن المزة العسكري قبل أن يتم الإفراج عنه. إن التيار الوطني العريض في الساحة الفلسطينية الذي بشّرت بتأطيره حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) تشكل من النواة الأولى لهذا الإطار القادمة من اتحاد طلبة فلسطين في القاهرة، ومن تجربة المقاومة في قطاع غزة عندما افترق الفتيان والشبان الفلسطينيون عن التنظيم الاخواني، وتركوا الجماعة قبل انتصاف العقد الخامس من القرن الماضي. وشنوا عمليات عسكرية تحت قيادة الشهيد خليل الوزير، ومنها عملية نسف خزانات مياه زوهر، ويصفها المؤرخ يزيد صايغ بالعمليات «الصغيرة»، في أواخر 1954 وأوائل 1955 والتي بلغ عددها 192، بحسب إحصاء إسرائيلي. وكان مصدر سلاحهم المتواضع وذخيرتهم «كتيبة الفدائيين» المصرية.
بالإضافة إلى بدايات المحاولات الجادة للعمل الفدائي من سوريا ولبنان بلدان الشتات، شكلت التحولات اللاحقة الخميرة التي هيأت الفكرة أمام مجموعة الخليج الفلسطينية القادمة بمعظمها من قطاع غزة وسوريا. فساهم بتأسيس النواة الفتحاوية اللاجئون الفلسطينيون من قطاع غزة : سليم الزعنون، الشهيد محمد يوسف النجار، الشهيد كمال عدوان، الشهيد خليل الوزير، الشهيد صلاح خلف، الشهيد ممدوح صبري صيدم، محمد سعيد المسحال، محمد مسودة، زهير العلمي، فتحي بلعاوي، سعيد المزين (أبوهشام)، محمد الافرنجي، حمد العايدي (أبو رمزي)، الشهيد عبد الله صيام ، نصر عبد الجليل، سليمان الشرفا (أبو طارق)، معاذ عابد (أبوسامي)، الشهيد أسعد الصفطاوي، الدكتور رياض الزعنون، عرفات أبو سكرانه (الحاج إسماعيل جبر)...
ومن الشتات عبر العديد من الكفاءات التي تعود لأبناء هذا التجمع العاملين في الخليج العربي بشكل رئيسي، وعلى رأسهم المرحوم خالد الحسن (أبو السعيد)، علي الحسن، محمود المغربي، هاني الحسن، رفيق شاكر النتشة، عادل عبد الكريم، عبد الله الدنان، منير السويدي، محمود عباس (أبو مازن)، محمود الخالدي، محمد راتب غنيم (أبو ماهر) من الأعضاء التاريخيين في اللجنة المركزية لحركة فتح .. فضلاً عن بعض الحالات المؤسسة لحركة فتح ذات الأصول البعثية : فاروق القدومي (أبو اللطف).
وفي حقيقة الأمر فقد بدأ تشكل النواة الصلبة القيادية الأولى لحركة فتح منذ العدوان الثلاثي والاجتياح الإسرائيلي الأول لقطاع غزة عام 1956 وفق أغلب المصادر، فقاد في حينها خليل الوزير مجموعة فدائية تسلحت من عتاد كتيبة الفدائيين التي أنشأها الرئيس جمال عبد الناصر، وأسس الشهيد صلاح خلف جبهة الكفاح المسلح الثورية التي كانت بداية انفكاك العلاقة بين معظم قادة الرعيل الغزاوي الأول من حركة فتح عن حزب الإخوان المسلمين.
وفي هذه الفترة بالذات عمل ياسر عرفات رئيس اتحاد طلبة فلسطين في مصر، على إقناع قيادة مجلس الثورة بضرورة قبول دفعات من الضباط الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة في الكلية الحربية المصرية، الأمر الذي تحقق، وأصبح الضباط الفلسطينيون من خريجي الكلية الحربية المصرية دعامة من دعامات جيش التحرير الفلسطيني (قوات عين جالوت) : اللواء منصور أديب الشريف، اللواء عبد الحي عبد الواحد، اللواء عبد الرزاق المجايدة، اللواء فخري شقورة، اللواء خالد سلطان .
نافذة إعلامية
وكانت نشرة «فلسطيننا ـ نداء الحياة» هي النافذة الإعلامية لهذه النواة. وتوزعت هذه النواة القيادية بين : الكويت (ياسر عرفات / محمد عبد الرؤوف القدوة، المهندس عبد الفتاح حمود، نمر صالح (أبو صالح)، خالد الحسن، علي الحسن، عبدالله الدنان، عادل عبد الكريم، كمال عدوان، فاروق القدومي، زهير العلمي، توفيق شديد)، قطر(محمود عباس، محمد يوسف النجار ..) ، السعودية (صلاح خلف، أبو علي اياد ـ وليد أحمد نمر نصر الحسين، ممدوح صبري صيدم، رفيق شاكر النتشة )، الجزائر(خليل الوزير، منهل شديد ..)، غزة (سليم الزعنون ..)، القاهرة، دمشق (محمود الخالدي ..)، وتعتز قاعدة حركة فتح بأن الحركة قدمت صفاً كبيراً من قيادتها في ميدان العمل الفلسطيني ضد الاحتلال والدولة العبرية، وعلى رأسهم العديد من أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري، بينما لم يتبق من قياداتها التاريخية سوى ثلاثة من القادة.
ويمكن القول بأن حركة فتح تميزت بالتقاطها اللحظة التاريخية التي مكنتها من فرض نفسها كقوة مبادرة بالرغم من الفقر النظري والسياسي في تكوين إطارها القيادي المؤسس، لكنه بالمقابل كان إطاراً مشبعاً بروح البراغماتية العملية وقد عركته التجارب، على خلفية تجربة معظم أعضائه في حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وبعض الأحزاب القومية العربية، وصقلته التجربة مع صعود العمل الفدائي. وعليه استطاعت حركة فتح تقديم نفسها كحالة منافسة لسطوة وتفرد منظمة التحرير الفلسطينية حاملة الراية الفلسطينية وقائدها المرحوم أحمد الشقيري الذي استقال في خطوة تاريخية تشهد له على استقامة سيرته الوطنية، فأصبحت حركة فتح في الموقع القائد لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1969 فتسلمت الراية من أحمد الشقيري وخليفته المؤقت يحيى حمودة.
وهكذا تأسست النواة الصلبة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح، في أكتوبر من عام 1957، وفي ظل العمل السري حتى فجر العام 1965 بعد أن تم حسم النقاش داخل نواة حركة فتح وجناحها العسكري - قوات العاصفة، بين من يرى التأجيل وتجنب توريط الدول العربية في مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني، وبين من يرى، ومنهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات ضرورة التقاط اللحظة والمبادرة إلى إطلاق الرصاصات الأولى.
طارحاً الشعار البراغماتي المرن «فوق الصفر وتحت التوريط» على عكس الاتهامات التي واجهتها حركة فتح إبان انطلاقتها من نمط اتهامها بالتاءات الثلاث أي : توريط، توقيت خاطئ، تنسيق معدوم، علماً بأن عدة مصادر تشير إلى اجتماعات عمل سبقت الانطلاقة المسلحة لحركة فتح وقوات العاصفة مع البعثيين ومع حركة القوميين العرب وخصوصاً في لقاء شهير ومطول عقد في الكويت بين البعض من نواة المؤسسين في حركة فتح (فاروق القدومي، سليم الزعنون، خالد الحسن ) والدكتور جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
العملية الأولى
وكانت اللحظة التي أرخت للانطلاقة المعاصرة للثورة الفلسطينية المسلحة فجر 1 /1/ 1965 بعد عملية نسف أنبوب المياه القطري في بلدة عيلبون داخل فلسطين المحتلة عام 1948، حيث قاد محمد شرف الدورية الفدائية الأولى لقوات العاصفة التي انطلقت من الأراضي السورية، من الزاوية الجنوبية الغربية للجولان عند مثلث الحدود الفلسطينية السورية الأردنية، واستشهد من أعضاء المجموعة الثانية لدى محاولتها عبور نهر الأردن نحو فلسطين اللاجئ الفلسطيني الشهيد المزارع أحمد سلامة موسى الدلكي معلنةً انطلاق حركة فتح وجناحها العسكري الذي حمل اسم قوات العاصفة.
وتأخرت المجموعتان اللتان كان مقرراً توجههما نحو الداخل الفلسطيني وتنفيذ عمليتين فدائيتين انطلاقاً من الأردن وجنوب لبنان، ففي حين لم تنفذ العملية التي كان مخططاً لها أن تنطلق من الأراضي الأردنية بسبب ارتفاع منسوب مياه نهر الأردن آنذاك، لم تعرف أسباب إحجام المجموعة الثالثة عن القيام بتنفيذ العملية الفدائية التي أنيطت بها.
وفي حينها وقبل أيام قليلة من انطلاقة العمل العسكري لقوات العاصفة أشرف ياسر عرفات على توزيع المجموعات الفدائية على دول الطوق ( سوريا، لبنان، الأردن) مشيراً إلى القول «ينبغي ألا نضع البيض كله في سلة واحدة»، وترأس الشهيد محمد يوسف النجار القيادة العامة لقوات العاصفة لفترة مؤقتة قبل أن يتسلمها الشهيد ياسر عرفات.
وفي هذه الأثناء تلا صدور البيان العسكري الأول لقوات العاصفة، البيان السياسي الأول لحركة فتح في 28 /1/ 1965، وقبل ذلك كانت حركة فتح تعلن عن نفسها عبر المذكرات التي كانت ترفعها للملوك والرؤساء العرب في مؤتمرات القمة. وفي هذا السياق فقد نفذت قوات العاصفة 146 فعالية وعملية فدائية عام 1965، كذلك نفذت 550 عملية عام 1966، وفي العام 1967نفذت قوات العاصفة 146 عملية فدائية، بينما نفذت 667 عملية فدائية عام 1968.
ونتيجة لظهور حركة فتح وتوسعها، اندمج فيها العديد من التنظيمات الفلسطينية الصغيرة مثل : منظمة طلائع الفداء لتحرير فلسطين (فرقة خالد بن الوليد) بقيادة الشهيد صبحي ياسين (أبوخالد) في 7 سبتمبر 1968، وجبهة التحرير الوطني الفلسطيني (مجموعة أبو حلمي / حسن الصباريني) في 13 سبتمبر 1968، وجبهة ثوار فلسطين بقيادة محمد أبو سخيلة في 25 نوفمبر 1968، وقوات الجهاد المقدس في 12 يونيو 1969، والهيئة العاملة لتحرير فلسطين بقيادة الشهيد الدكتور عصام السرطاوي عام 1970، والجزء الأكبر من منظمة فلسطين العربية عام 1972.
فضلاً عن عدد من المجموعات الفلسطينية الصغيرة التي أسسها البعض من النشطاء الفلسطينيين في سوريا والتي اندمجت مع حركة فتح منذ بواكير التأسيس الأولى قبل وبعد العام 1959( مجموعة عادل عبد الكريم : العاصفة، مجموعة خالد الحسن : هيئة تحرير فلسطين، مجموعة هايل عبد الحميد : منظمة عرب فلسطين في مخيم اليرموك، مجموعة هاني الحسن : شباب الأقصى، ومجموعة محمود عباس : طلبة فلسطين في جامعة دمشق التي ضمت إضافة إلى عباس: نامق أبو عابد، عبد الله الدنان، عمر الحوراني، يحيى البنا، ظافر الخضراء .
ومحمود المغربي وتعتبر المجموعة المشار إليها أول تنظيم فلسطيني بعد نكبة 1948 وحاول هذا التنظيم التوحد مع حركة فلسطينية صغيرة حملت اسم «أبطال العودة» نشأت داخل التجمع الفلسطيني في مخيم العائدين في مدينة حمص وسط سوريا. وفي لبنان (مجموعة زكريا عبد الرحيم : المنظمة الفلسطينية الثورية).
وأصبحت قوات «العاصفة» تمثل جميع المنظمات المشار إليها، بينما فشلت محاولات التوحد مع تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة السيد أحمد جبريل، ومع مجموعة الجبهة الثورية لتحرير فلسطين (محمد زهدي النشاشيبي، العميد فهمي هوين ) لأسباب تطول حيثياتها وعملية نقاشها وفقاً لرأي الأطراف المعنية، والجبهة الثورية المذكورة ليست الطرف الذي حمل الاسم ذاته وانشق عن الجبهة الشعبية عام 1972 بقيادة أحمد الفرحان (أبو شهاب العراقي).
وغدا ياسر عرفات ناطقاً رسمياً باسمها في ابريل 1968، وعندها صدر قرار عن قيادة حركة فتح وقوات العاصفة باعتماد ياسر عرفات ناطقاً رسمياً، وممثلاً لها على كافة المستويات الرسمية والشعبية والتنظيمية والمالية والإعلامية بدءاً من تاريخه.
في هذا السياق، وأمام تسارع الخطى في نمو وتطور ظاهرة العمل الفلسطيني المستقل، وتعاظم خيارات العمل المسلح، لم يعد ممكناً على التجمعات والكتل الحزبية الفلسطينية المنضوية في إطار الأحزاب القومية العربية أو المستقلة نسبياً عنها، سوى أن تبادر نحو تبني خيارات العمل الفلسطيني المقاوم الذي شقت دروبه حركة فتح وجناحها العسكري - قوات العاصفة.
من جانب آخر، وبحكم التداخل الكبير والمساحة المشتركة الواسعة التي تتحكم بالعلاقات والمصير المشترك، وبحكم موقع سوريا «الجغرافي والسياسي والبشري» من القضية الفلسطينية، وفي سياق صراع الكتل العربية وحالة التنافس الحاد (البعثي ـ الناصري) آنذاك، فقد لعبت الساحة السورية دوراً رئيسياً في تهيئة ميدان العمل لانطلاقة الرصاصات الأولى لقوات العاصفة.
حيث زار دمشق أول وفد رسمي من حركة فتح في 7 /5/ 1963 الذي ضم سبعة أعضاء، حيث استقبلهم وزير الدفاع السوري اللواء حمد عبيد، وأعطى في حينها توجيهاته بالموافقة على استخدام الأراضي السورية في الإعداد العسكري للعمل الفدائي الفلسطيني المسلح. وشهدت الفترة إياها تعاوناً بين القيادة السورية وحركة فتح توصل إليه كل من اللواء أحمد سويداني رئيس هيئة أركان الجيش العربي السوري والشهيد الرئيس ياسر عرفات.
وبموجبه تم رفد حركة فتح بالكفاءات العسكرية ممثلة بمجموعة من الكادر العسكري على رأسهم قائد الحرس القومي والقائد الحالي للجيش الشعبي في سوريا اللواء محمد إبراهيم العلي (أبو ندى) وبالكفاءات العسكرية الفلسطينية المنضوية في إطار الكتيبة الخاصة التي حملت اسم الكتيبة 68 في الجيش العربي السوري التي التحق منها 30 كادراً في قوات العاصفة قبل وفور صدور بيانها الأول وفق الباحث يزيد صايغ ( )، ومن الفلسطينيين المنضوين في إطار الكتيبة (20 حرس وطني) التي رابطت بعناصرها على امتداد خط الجبهة بين سوريا ودولة الاحتلال من عرب اللهيب والتلاوية وغيرهم، خصوصاً، في المناطق المطلة على بحيرة طبريا من الجانب السوري كمناطق البطيحة والنقيب وكفر حارب والتوافيق .
دمشق حضن المقاومة
وتم اعتماد أول مكتب علني لحركة فتح وسط دمشق / شارع باكستان ، ومكتب آخر تم إهداؤه من الحرس القومي السوري في منطقة دمر الواقعة شمال غرب دمشق، حيث قام النقيب موسى العلي بتدريب مجموعات حركة فتح على رمي القنابل الدفاعية والهجومية، وتحمس رئيس الجمهورية في سوريا آنذاك الفريق أمين الحافظ، ورئيس الأركان اللواء صلاح جديد لموضوع العمل الفدائي، وعليه تم إنشاء معسكر للتدريب في منطقة حرستا بإشراف اللواء محمد إبراهيم العلي (أبو ندى).
وفيه خضع المتدربون لتدريبات على الرمي بالمسدسات والبنادق الآلية وقاذفات ب 2، وتم استحداث معسكر آخر في يبرود / منطقة القلمون، وبلدة مصياف. وفي هذا السياق تم ترتيب إسناد قوات العاصفة بصفقة السلاح الجزائري المعروفة عن طريق العقيد الطاهر الزبيري رئيس أركان الجيش الجزائري بحضور مسؤول مكتب حركة فتح محمد أبو ميزر (أبو حاتم). حيث أرسلت المعدات باسم الحرس القومي في سوريا وكانت بوزن (12) طنا من مسدسات شارلينغ البريطانية مع ذخيرتها، ومسدسات طاحونة بلجيكية وفرنسية مع ذخيرتها، وقنابل يدوية هجومية ودفاعية، وألغام مضادة للأفراد والآليات.
ودخلت الصفقة الجزائرية إلى سوريا بطائرتي أنتونوف، وهبطتا في مطار المزة القريب من دمشق في مارس 1965، وأفرغت الحمولة في سيارات (زيل 157) عسكرية سورية روسية الصنع ، حيث نقلت الحمولة إلى مستودعات الحرس القومي ثم سلمت لحركة فتح، وقسم من العتاد تم تخزينه في مخيم اليرموك، وقسم في منزل الشهيد خليل الوزير، والباقي في معسكر لحركة فتح في غوطة دمشق.
وعملياً، فقد تم على الأرض السورية افتتاح أولى القواعد الفدائية العسكرية في تاريخ الثورة الفلسطينية واستلام قوات العاصفة لأول شحنة سلاح من الجزائر عبر مطار المزة بدمشق. وكانت قاعدة فتح العسكرية الأولى في منطقة قريبة من مخيم اليرموك ، ما لبث أن تم نقلها إلى موقع معسكر «الهامة» وألحق بها معسكر مجاور هو معسكر «ميسلون» على الطريق من دمشق إلى بيروت، لتصبح مقر القيادة ومركز التدريب الرئيسي بقيادة الشهيد أبو علي أياد (وليد أحمد نمر نصر الحسين).
وهي القاعدة التي خرجت المئات من قادة حركة فتح العسكريين الموجودين حالياً داخل فلسطين. وقصفت هذه القاعدة ثلاث مرات من خلال غارات الطيران الإسرائيلي : المرة الأولى عام 1968، والثانية عام 1969، والثالثة عام 1972. وتم إغلاق هذه القاعدة بعد حرب أكتوبر1973 لأسباب تتعلق بقربها من دمشق من مواقع الاصطياف والسياحة وتعرضها المتكرر للقصف الجوي الإسرائيلي. وافتتحت بعدها العديد من القواعد العسكرية الفدائية في سوريا، خاصة في منطقة دمشق. وتم تخريج أول دفعة من المقاتلين الفدائيين بدمشق في 3 /5/ 1965 وبحضور الرئيس السوري الأسبق الفريق أمين الحافظ.
إلا أن المرحلة القاسية بين قوات العاصفة والقيادة السورية، وقعت بين الطرفين مع وفاة كل من النقيب يوسف عرابي والملازم الأول محمد حشمة داخل إحدى مقرات حركة فتح في حي الشعلان بدمشق في حادث تطول تفاصيله. وعندها تم اعتقال الشهيد ياسر عرفات وعدد آخر من قيادات حركة فتح بلغ عددهم احد عشر كادراً (خليل الوزير، ممدوح صيدم، أبوعلي أياد، مختار بعباع، زكريا عبد الرحيم، أبو العبد العكلوك، موسى عرفات القدوة، والمرحوم عبد المجيد زغموت ..).
وزج بهم في معتقل الشرطة العسكرية القديم قرب جامعة دمشق ومن ثم نقلوا إلى سجن المزة العسكري، وبعد ذلك إلى معتقل مطار الضمير العسكري شرقي دمشق على الطريق إلى بغداد، إلى أن تمت تسوية الموضوع بعد واحد وخمسين يوماً من الاعتقال، اثر لقاء جمع أبو إياد ومحمد يوسف النجار وفاروق القدومي مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، وفي هذه الأثناء كان فاروق القدومي ذو الأصول البعثية، وكمال عدوان وصلاح خلف، والسيدة انتصار الوزير، والشهيد أحمد الأطرش، والشهيد منهل شديد يسيرون أمور حركة فتح وجناحها العسكري قوات العاصفة.
وسبق وأن تم اعتقال ياسر عرفات في سورية نهاية العام 1965 اثر محاولة نسف خط أنابيب النفط المار في أراضي هضبة الجولان السورية، وأودع سجن المزة العسكري. كما اعتقل بداية العام 1966 في لبنان من قبل جهاز الأمن العام اثر محاولته التسلل إلى داخل الأراضي المحتلة عند بلدة كفر كلا اللبنانية المجاورة للحدود الفلسطينية، حيث دام الاعتقال ثلاثة أسابيع، بعد أن أحيل إلى مخابرات المكتب الثاني اللبناني برئاسة الضابط سامي الخطيب. وتلا إطلاق سراحه، اعتقال عضوين من مجموعتين من قوات العاصفة لدى عودتهما إلى جنوب لبنان من عمليتين فدائيتين شمال فلسطين المحتلة في منطقة الجليل.
فخضع كل من الشهيد جلال كعوش من مخيم اليرموك، لعملية تعذيب قاسية، استشهد جراءها داخل أقبية مخابرات المكتب الثاني اللبناني في منطقة البرزة حيث مقر وزارة الدفاع اللبنانية، فكان شهيد فلسطين وقوات العاصفة الأول فوق الأرض اللبنانية بتاريخ 9 /1/ 1966.
وفي 1969 أصبحت حركة فتح التنظيم الأهم في منظمة التحرير الفلسطينية، واستحوذت على القسم الأكبر من عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة، وبقيت كذلك بعد تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية في صيف 1994 اثر اتفاقات أوسلو، حزب السلطة الأهم والأقوى في مستويات النشاط السياسي، والعسكري، والتنظيمي أيضاً، وحتى اللحظة الراهنة بعد استشهاد القائد المؤسس لحركة فتح وقوات العاصفة ياسر عرفات.
سر النجاح
لقد شكلت تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، الوعاء الأول لتوسيع القاعدة الفدائية التحتية لحركة فتح وجناحها العسكري (قوات العاصفة)، كما هي الحال في مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة التي شكلت ومازالت الخزان البشري الذي لا ينضب لمقاتلي كتائب شهداء الأقصى. وزاد من نفوذ حركة فتح داخل أوساط اللاجئين الفلسطينيين في الشتات وفي الداخل الفلسطيني عشرة عوامل حاسمة :
أولاً، مبادرتها إلى إطلاق الرصاصات الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، وتبنيها خط الكفاح المسلح، وما يحدثه من رنين سحري عند الناس أيضاً، كما كان يصّر الاتجاه الذي قاده الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وتالياً اكتسابها سبق المهمة بتفجير شرارات الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1 /1/ 1965، ورفعها راية الكيان الفلسطيني.
ثانياً، «فلسطنة» النضال الفلسطيني ليكون هذا النضال «طليعة للنضال العربي والدعم العالمي من اجل تحرير فلسطين»، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الكفاح وذلك بطرح شعار إنشاء كيان فلسطيني يمثل الفلسطينيين ويعمل على تثبيت الهوية الفلسطينية وترسيخ حضورها في العالم، ويسعى إلى تحرير فلسطين الأرض والشعب. وانطلقت في نسق الفلسطنة بروح شعبوية دغدغت مشاعر أوسع القطاعات من الناس المتأففة من النظام الرسمي العربي وكل ما يمت له بصلة.
ثالثاً، توسع إمكانياتها في الحركة والفعل مع الدعم الهائل الذي تساقط عليها من مختلف الدول العربية خاصة الخليجية منها، بينما انغلقت باقي القوى الفلسطينية «وبعقلية ضيقة» دون أن تعير علاقاتها العربية الأهمية المطلوبة، بل واتخذت مواقف متشددة تجاه العديد من البلدان العربية.
رابعاً، تبني الشعارات «الشعبوية» التي طرحتها في الشارع الفلسطيني من نمط «فلسطين طريق الوحدة» و«الوحدة على أرض المعركة»، وأن باقي الفصائل «من منتوج النظام الرسمي العربي»، مؤكدة على مضمون شعارها الثلاثي الذي رفعته بهذا الجانب : «لا وصاية، لا تبعية، لا احتواء».
خامساً، الروافع الإقليمية التي تهيأت لها على خلفية المواصفات الديناميكية لقيادتها الشابة، وامتداداتها، والسياسات البراغماتية لقياداتها المؤسسة لها.
سادساً، الدور الذي لعبته قيادات مؤثرة من حركة فتح في تجاوز باقي القوى الفلسطينية من فصائل وقوى التيار القومي والتلاوين اليسارية، التي استهلكتها التباينات الداخلية، وتبايناتها مع الحالة العربية خصوصاً في الأردن.
سابعاً، الدور القيادي الذي احتلته على صعيد الحركة السياسية المبادرة والنشطة بينما غرقت باقي القوى في مشاكلها الداخلية. وكل هذا مكّن حركة فتح من الإمساك بمقاليد الأمور في منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك القرار السياسي، والإمكانيات، خلال فترة قياسية قصيرة، وتوسع قاعدتها التنظيمية والفدائية المقاتلة في كل مواقع وجود الشعب الفلسطيني.
وعلى الأخص وسط المخيمات، وإسراعها في بناء وتطوير المنظمات والاتحادات الشعبية الفلسطينية وتأسيسها لجمعيات الهلال الأحمر الفلسطيني، وأسر شهداء ومجاهدي فلسطين، والأشبال والزهرات وليس صدفة أن تكون القوافل الأولى من مئات الشهداء الذين سقطوا في صفوف حركة فتح هم من أبناء اللاجئين الفلسطينيين في كل من : سوريا، لبنان، الأردن.
ثامناً، الكاريزما الخاصة التي ميزت شخصية قائدها ياسر عرفات، والعديد من قياداتها الميدانية، والزخم الذي وفرته لها هذه الكاريزما في سياق الأداء السياسي والتنظيمي والفدائي العسكري. فياسر عرفات مساير ومنتبه للوضع الدولي، وبذات الوقت ومع دراسته الهندسة ، لكنه كان أشد الناس قناعة بأن الخط المستقيم ليس بالضرورة أقصر مسافة بين نقطتين في السياسة، فبرزت قدرته «كزارع للفوضى» في خارطة أوراق اللعبة، خصوصاً عند المساس بالبيت الفلسطيني.
وعليه فان الشهيد ياسر عرفات، كان يكرر القول بأن «من يعمل على الأرض يفهم أكثر من المنظرين». تاسعاً، أنها تعاملت مع الناس وحركة الشارع بمنطق إنساني مبدئي يجمع مع البراغماتية عالية المستوى، بعيداً عن المنطق العملي، والأيديولوجي الجاف الفاقد للكاريزما، وتالياً استطاعت ايقاعات حركة فتح وقائدها الميداني الشهيد ياسر عرفات أن تصل إلى الشارع في أغلب الأحيان. عاشراً، اتباعها منهج الاستيعاب.
حيث قدمت ذاتها بالواقع العملي «جمل المحامل» و«اعتبرت نفسها دوماً الأم، والحاضنة الكبيرة» المسؤولة عن كل الشعب الفلسطيني «وليست صاحبة دكان»، فابتعدت عن أساليب «التطفيش» التي مارستها باقي الفصائل بحق منتسبيها، وعن «الأطر الضيقة» التي تحولت إلى ديكتاتورية متسلطين من أفراد وأصنام، عند الأحزاب الشمولية والقوى الفلسطينية المناظرة لها.
اضاءة
تأسست النواة الصلبة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح، في أكتوبر من عام 1957، وظلت تعمل بالسر حتى فجر 1965 بعد أن تم حسم النقاش داخل نواة حركة فتح وجناحها العسكري ، بين من يرى التأجيل وتجنب توريط الدول العربية في مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني، وبين من يرى، ومنهم ياسر عرفات ضرورة التقاط اللحظة والمبادرة إلى إطلاق الرصاصات الأولى.
