من منظور تاريخي، لم يكن الإنسان يوماً كائناً مكتفياً بذاته، فحين استخدم النار، تغيّرت بنيته الغذائية، وحين ابتكر العجلة، تغيّرت علاقته بالمسافة والزمن، وحين اخترع الكتابة، خرجت ذاكرته إلى خارج الدماغ..

واليوم نقف على أعتاب ثورة جديدة، يمكن تسميتها الثورة التقنية الرُقاقية (نسبة إلى الرقاقة الإلكترونية)، كامتدادٍ للطبيعة البشرية، لا قطيعة معها، فالرقاقة الإلكترونية ليست استثناءً في مسار التطور، بل امتداد للذاكرة والانتباه ومعالجة المعلومات.

غير أن خطورتها المقبلة تكمن في أنها ستستقر أو تُزرع داخل الجسد، متصلة بالجهاز العصبي مباشرة، لا بتركيب اليد أو صناعة القدم فقط، وهذا ما يجعل سؤال الهوية أكثر حدّة من أي وقت مضى.

إن ابتكار رقائق تُعزّز الذاكرة أو الانتباه أو القدرة على اتخاذ القرار، يضع الإنسان أمام إمكانية أن يمتدّ خارج حدوده البيولوجية.. ولأنني أكتب في الصفحات الثقافية، ويهمني الإبداع، فإلى أين يتجه الإنسان حين تصبح قدرته على الخيال والحفظ والتحليل قابلة للزيادة الصناعية، وممتدة خارج جسده؟ وكيف يتغيّر المفهوم الإبداعي ذاته، عندما يصبح جزء منه صادراً من وسائط داخلية غير بشرية؟.

يرى البعض في ذلك منحى إيجابياً، فالطالب أو الباحث، يمكنه تخزين مكتبات كاملة في رقاقة متناهية الصغر، يستدعيها كما يستدعي ذاكرته الطبيعية، فيغدو أكثر قدرة على إحكام المعرفة.

كما أن الرقاقة لا تَسْتبدل العقل، بل تقوّي عضلته، وتسمح بتعلّم فوري للغات، والتحليل المعقّد الذي كان يتطلّب سنوات.. كما أن الرقائق الحيوية قد ترصد الأمراض مبكراً، وتراقب المؤشرات اللحظية، فتُعيد تعريف الجسد من الداخل، وفي هذا المستوى، يصبح الإنسان شريكاً للآلة، لا تابعاً لها.

لكن لكل قوة ظلّها، فالتوسع الرقمي قد يتحوّل إلى هشاشة وجودية، أولها الخصوصية، إذ إن الرقاقة بطبيعتها تُنتج بيانات دقيقة عن الجسد والعقل معاً، ما يعيد صياغة السلطة في العالم الحديث، أيّ من يملك البيانات يملك الإنسان.. ثم يظهر القلق من فقدان المهارات الطبيعية.

كالخيال والحفظ والصبر، حين يصبح الاعتماد على الرقاقة أشبه بعكّاز دائم، بل ويتضاعف التحدي مع بروز فوارق طبقية جديدة بين من يستطيع ترقية ذاته رقمياً، ومن يُترك خلف الحداثة، فنكون أمام «نبلاء رقميين»، وفقراء غير محدّثين، وهو انقسام يعيد تشكيل معنى العدالة الإنسانية.

أمام كل ذلك، يعود السؤال الأول: ما الإنسان؟ هل هو ذاكرة؟ خيال؟ جسد؟ أم مجموع هذه العناصر، وقد دخلت كلّها في مفاوضة جديدة مع التقنية؟ إنه سؤال ثقافي وفلسفي بقدر ما هو علمي، سؤالٌ يُفتح ولا يُغلق، تماماً كما تفتح كل ثورة جديدة باباً لإعادة تعريف الذات.