لم يكن وليام سومرست موم مجرد روائي وقاص بريطاني بارع، بل كان أيضاً وجهاً آخر من وجوه الأدب المجنّد. اشتهر بقدراته السردية في رسم الشخصيات المأزومة والمنافقين الاجتماعيين، لكن خلف هذا الأدب البراق تختبئ سيرة مرتبطة مباشرة بالاستخبارات البريطانية، خلال الحرب العالمية الأولى، مجسداً كيف يمكن للأدب أن يتحول إلى ذراع موازية للمهمات السرية.
تجربته الاستخباراتية بدأت في سويسرا وروسيا، بعد أن أوفدته الحكومة البريطانية لمهام تتراوح بين جمع المعلومات، ومحاولة التأثير في مسار الأحداث السياسية، وقد روى لاحقاً بعض تفاصيل تلك الفترة في كتاباته، لكنه أخفاها تحت غطاء الرواية، إذ كان القلم عنده امتداداً للعمل الاستنبائي، ليموّه، ويعيد تركيب الواقع، ويحوّل الأسرار إلى حكايات أدبية، فكل أبطاله في جميع رواياته، ومجموعاته القصصية التي حملت أصداء هذا العالم المظلم، جميعهم يظهر فيهم الجاسوس والمخبر والدبلوماسي في شبكة من الخداع والمصالح، وبالتالي سرد موم لا ينفصل عن خبرته في التجسس، فهو يكتب من داخل التجربة، لا من خيال محض.. حتى حين يصف شخصيات عابرة أو أماكن بعيدة، كان يدوّن خريطة للمشهد السياسي والاجتماعي الذي تتحرك فيه الإمبراطورية.
اللافت أن موم لم يُقدَّم يوماً على أنه موظف رسمي في التجسس، بل ظلّ في صورة الأديب العالمي، تُترجم أعماله وتُقتبس للسينما والمسرح، أيّ خلف هذه الهالة الأدبية كان يختبئ رجل مكلف بمهمات دقيقة في لحظة مفصلية من التاريخ، وبذلك شكّل نموذجاً للتداخل بين الرواية والسلطة، حيث الكاتب الذي يُلهم القراء بحكاياته، والمؤدي في الوقت نفسه دور الجندي الخفي في معركة استعمارية.. مثل رواية «حافة الشفرة»، هي ليست رواية للتجسس، لكنها تكشف بوضوح عمق نظرة موم للعالم بعد تجاربه مع المخابرات، إذ تناول فيها فكرة البحث عن معنى الحياة بعد الحرب، من خلال شخصية جندي سابق يرفض العودة إلى حياة مادية ويبحث عن الروحانية.. وفيها تجربته الواضحة عن وعيه ككاتب استخباراتي بطريقة غير مباشرة.
لا أعني بالطبع جميع الأدباء الإنجليز، لكن سومرست موم مثال، فإعادة قراءته اليوم، تجعلنا ندرك أن الأدب البريطاني الحديث لم يكن دائماً حكاية بريئة، بل كان أحياناً مرآة مزدوجة: تُبهر القارئ بلغة الفن، وتخفي في عمقها مهمات أُنجزت باسم الدولة والإمبراطورية.. وهنا يكمن جوهر المفارقة، وهو أن يتحوّل القاصّ المرهف إلى عين سرية، وأن يصبح النص الأدبي ستاراً لأهداف استخباراتية.