كانت لحظات تعبق بالأمل والفخر حين عادت منارة الحدباء (مئذنة الجامع النوري الكبير في الموصل) لتشمخ مجدداً في سماء المدينة بعد حرب متعبة، وبفضل جهود الترميم الرائعة، التي قادتها اليونسكو، وبدعم رئيسي من دولة الإمارات الحبيبة مع الاتحاد الأوروبي، فالحدباء هو اسم تاريخي مرتبط بنينوى، وصوت حجري لمدينة معروفة بأهلها الطيبين المسالمين، الذين صبروا أثناء احتلالها من تنظيم داعش، دون محاولة أهلها الخروج من المدينة، ليؤكدوا أنها مدينتهم، بينما غرباء السلطة إلى زوال.

دُمرت المنارة والجامع على يدهم في يونيو 2017م، وكانت ضربة موجعة للهوية الثقافية والبصرية لهذه المدينة العتيقة، فلم تكن منارة الحدباء مئذنة فحسب، بل كانت ذاكرة مميزة لأهلها، وعموداً يطل من قلب المدينة، منحها اسمها وهيبتها لأكثر من ثمانية قرون، وهي تميل برفق نحو السماء، وكأنها تُصغي للريح، مع صدى الأذان في أزقة المدينة العتيقة، تستمع إلى حكايات المصلّين، فحين سقطت في عام الخراب بدا أن الموصل نفسها قد انكسرت؛ إذ لم تُدمَّر حجارة فحسب بل ضُربت روح المدينة في عمقها، فكان انهيارها إعلاناً حزيناً عن زمن أراد أن يمحو الذاكرة والهوية معاً.

مسجد النوري الذي شيّده نور الدين الزنكي سنة 1172م أمير إمارة الموصل، إلى جانب تشييده المنارة الرائعة، شاهدان على أرواح أجيال كثيرة، فلم يزُر مسافراً الموصل إلا ووقف مشدوهاً أمامها، ذكرها الحموي في معجمه، وابن بطوطة في كتابه، وغيرهما من الباحثين في تراثنا القديم، أما سرّ الميلان فمنذ زمن مبكر بعد تشييدها بدأت المنارة تميل قليلاً نحو الشرق، وقد علل المؤرخون والمعماريون والمهندسون القدماء أنها طبيعة التربة، فالأرض رخوة وقريبة لنهر دجلة، ما جعل أساسها يتأثر بالرطوبة، ومنهم من برر ارتفاعها الشاهق بضيق القاعدة التي جعلتها عرضة للانحناء، بالإضافة إلى الفيضانات والزلازل والرياح الغربية، عبر القرون الأخيرة، التي ضربت الموصل.

ولكن أخيراً وبجهود الترميم منذ عام 2018م، وبقيادة اليونسكو وبتمويل مُقدّر خير تقدير من الإمارات، استعادت المئذنة حضورها كطائر نفض الغبار، لتشمخ من جديد بعد جمع البنائين شظاياها القديمة، ومع إرادة شعب قرر أن يُعيد مدينته بمسماها الحدباء، بجانب التسميات الأخرى لها، من آشور ونينوى وأم الربيعين ومدينة الرماح والموصل، لتبقى المئذنة المائلة نسخة عن القديمة، كما كانت، وبطوبها الأصلي، وبنقوشها الهندسية الرائعة، التي غطيت بها جسد الحدباء، وتوزيع فني لم يجعل المنارة جداراً جامداً فحسب بل ثوباً مزخرفاً يرتفع، لتمنح إحساساً دائماً بالثبات والحركة.