تسجيل أسود، هذا كل ما بقي منه. صورة مشوشة تتكرر. تتماوج حيث دهن شعره وترك قليلاً منه على شاربيه الصغيرين. أو قد يكون ملتصقاً بفروة رأسه من أثر التصفيف والتسريح.
البدلة المكوية والخشب المصقول خلفه على شكل دائرة كجزء من تصميم المسرح، أم إنه ليس بخشب؟
رحلت الألوان ثم هو وبقي صوته. يبدو بلا هموم أو قضية الآن، بلا مشاعر سوى تلك التي تحملها الكلمات المُلحنة، بلا وزن وهو الذي اختار إطار البُعدين ومساحة الصورة المتماوجة بالأبيض والأسود. لون ربطة العنق الذي لم يعد ممكناً ألهمني.
الهامش الذي يتسع لنا جميعاً لم يعد سوى عالم آخر. مساحة يمكن قياس أبعادها بالمسطرة، نحن الذين لم نرضَ من قبل بذلك لا بل وكافحنا لنثبت العكس. هل سقطنا اليوم في فخ المسلمات وسلة المهمشات؟
كقطعة من مطاط فقدت هويتها، ترهلت. الحرف الذي يعتصر السنابل ليحيا وتجابهه عجاف السنوات هو الإبداع المكرر في محاولة لإقامة مشروع حياة مشوه. حين بدأت تتشكل ملامح المساحة المأخوذة بشرع الهدنة ما بين القلم والورقة فأصبح بالإمكان تعريفها بل والإمساك بعجينتها وتشكيلها، وبات للمثقف شكل يُعرف من خلاله، اتسع وهم هذا الهامش فقط. خدعة بصرية إذاً هي ليس إلا.
المثقف المسكين الذي ناضل طويلاً من أجل مكانة واضحة التعريف في سلم القيم والمفاهيم المجتمعية، يقبع اليوم بين أربعة جدران من صنع ذائقته.
ترى كيف يبدو شكل المثقف اليوم؟ هل تخلص من شرنقته، أم إن قوقعة انعزاله اتسعت ليس إلا؟
اشتاق قِطَعاً من أدبٍ مطرز ليست للبيع. عندما يرتطم الكاتب بتفاصيل الواقع حادة الأطراف، كأن يواجه فرشاة أسنانه صباحاً وهو يشرق باسم قصيدة واسعة الأثواب جديدة، أو كأن يلقى خريطة تشفيه أعراض التيه اللذيذ. أن يُدرك بعد أحايين الطفولة أن الشغب لم يعد هاجساً خاصاً.
أريد أن أكتب الشعر لا قصيدة، بل قطع أثاث في كل بيت. أن أسكن إليها. لا أريد أن يفهمني أحد، تماماً كربطة عنقه التي تخلت عن هويتها، هطلتُ كأغصان ياسمينة لم تعد تكفي مع المطر.
سأسير نحوك أيها الحرف وأملي أن ألقى في الطريق اعوجاجاً وأمسح عن وجهي مساحيق الأمس الذي منذه صرت لك وحدك. أخضب بحناء الهوى كفاً سيحضنها الدفء. اشتقت هوىً ما فارقني كمعجم الكلمات التي فارقتها اللغة.
وألجأ إليك ككهفٍ حميم، أنا التي تتنفس الحرف وتقسم اللغة رغيفاً حتى تشبع. أنا التي أدمنت غواية التمرد الشهي للكلمات.