في مقالي السابق تناولت كيف تحول القرار الطبي في كثير من الأحيان من يد الأطباء المتخصصين إلى شركات التأمين، بما يحمله ذلك من ظلم للمريض وتقييد لحقه في العلاج. لكن الحقيقة أن شركات التأمين ليست وحدها مصدر الخلل. فحتى لو أصلحت سياسات التأمين، فإن منظومتنا الصحية لن تشفى ما لم نطلق العين والرقابة على المستشفيات الخاصة التي جعلت من المريض سلعة ومن العلاج سوقاً مفتوحاً.

المريض بين العمولات والتحويلات

وصلت بعض الممارسات في القطاع الخاص إلى مستوى الفضيحة الأخلاقية:

• عمولات بين الأطباء وشركات الأدوية لتصريف وصفات لا لزوم لها.

• عمولات بين المستشفيات لتحويل المرضى كما لو كانوا عقود استثمار.

• عمولات بين الأطباء أنفسهم لإجراء عمليات لا يحتاجها المريض إطلاقاً.

في هذه السوق السوداء، لم يعد المريض إنساناً يحتاج الرعاية، بل أصبح رقماً في فاتورة، يغادر المستشفى مثقلاً بالديون بدلاً من أن يغادر معافى.

الفحوصات والتجارب بلا مبرر

ولم يقف الأمر عند حدود العمولات، بل امتد إلى طلب فحوصات مكثفة بلا سبب طبي حقيقي، فقط لتضخيم الإيرادات. الأخطر أن بعض المستشفيات دخلت في تجارب سريرية دون موافقات رسمية أو رقابة أخلاقية، في مقامرة بحياة البشر تحت شعار البحث العلمي.

أين دور القطاع الخاص الحقيقي؟

إذا كان القطاع العام هو الحارس الأول لصحة الوطن، فإن القطاع الخاص يجب أن يكون سنداً لا عبئاً. غير أن الواقع يكشف أن كثيراً من المستشفيات الخاصة جعلت الربح غايتها الأولى، وتجاهلت أن مسؤوليتها تتجاوز جدرانها لتشمل حماية الإنسان وصون كرامته.

الحلول: من التشخيص إلى التطبيق

لا يكفي وصف الداء؛ بل لا بد من خطوات عملية واضحة:

1. تجريم العمولات الطبية:

إصدار تشريع واضح يجرم أي عمولات بين الأطباء والمستشفيات وشركات الأدوية، مع إعلان أسماء المخالفين للرأي العام.

2. ضبط الفحوصات والإجراءات:

إلزام المستشفيات ببروتوكولات علاجية وطنية موحدة، تمنع طلب أي فحص أو إجراء دون مبرر علمي معتمد.

3. حماية المرضى في التجارب السريرية:

ربط أي بحث سريري بلجنة وطنية للأخلاقيات الطبية، وفرض عقوبات مشددة على أي تجاوز.

4. المسؤولية المجتمعية كإلزام لا رفاهية:

جعل مساهمة المستشفيات الخاصة في التعليم الطبي، والأبحاث، ودعم القطاع العام أثناء الأزمات شرطاً أساسياً لتجديد الترخيص.

5. تفعيل آليات الشفافية:

نشر تقارير سنوية عن تكلفة العلاج، مصادر الدخل، ونسب الفحوصات غير الضرورية، بحيث يطلع المجتمع على الصورة كاملة.

الرقابة والمحاسبة أولاً

الرقابة ليست أوراقاً تملأ ولا لجاناً شكلية ترضي الإعلام. الرقابة الحقيقية هي تلك التي تمتلك سلطة التحقيق والعقاب، وتفرض الشفافية وتحاسب من يتاجر بالمريض. المطلوب اليوم ليس توصيات ولا بيانات، بل أجهزة رقابية مستقلة تمتلك الجرأة على مواجهة المستشفيات المخالفة، وأن تسحب تراخيص وتفرض غرامات ويكشف للرأي العام كل من يستهتر بأرواح الناس.

كلمة أخيرة

المريض ليس سلعة، والمستشفى ليس سوقاً. وإذا لم يحاسب القطاع الخاص على انحرافاته بصرامة وشفافية، فسوف يفقد شرعيته أمام المجتمع، ويضعف الوطن من داخله. الإصلاح يبدأ بالاعتراف، لكن استمراره مرهون بالمحاسبة الفعلية وتطبيق الحلول. وإذا لم نتحرك اليوم، فلن يكون الثمن مجرد فاتورة مالية، بل انهيار الثقة في الطب وتحول المريض إلى ضحية دائمة.