بينما نحنّ إلى الماضي ونتمسك بتفاصيله، ونسمي كل مرحلة زمنية مر عليها أكثر من عشرة أعوام بالزمن الجميل، ننسى أن نتوقف قليلا ونذكر حسنات الزمن الذي نعيشه وما تحقق فيه من إيجابيات. تذكرت ذلك وأنا أستمتع باستخدام الآيفون الذي أهدي إليّ مؤخراً وأستفيد من مزاياه، ولكني لا أفتأ أتحدث عن سلبياته وعن خوفي من الإصابة بـ"الإدمان النتي" من خلاله، وأهدد بالتوقف عن استخدامه والعودة إلى زمن النوكيا الجميل.
لست نادمة على عزوفي عن استخدام البلاك بيري حتى الآن، ولا عن تأخري في استخدام الآيفون، لأن المرحلة الخالية من وجود النت بين يدي، كانت فعلا جميلة وأكثر عمارا بالحس والشعور والتعاطي مع البشر. ولكني كلما تذكرت أوقات الملل والانتظار الطويل في المستشفى وعند المدرسة وغيرهما من الأماكن، وأرى كيف صارت تمضي سريعا بصحبة الآيفون، أثمن لهذا الاختراع دوره في الحياة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فلا بد من ذكر فضل خاصية الوورد في الكتابة، وكيف خلصت الذين يعانون من رداءة الخط مثلي من معاناة دائمة في حياتهم، وقد ذكرت كثيرا أنني ربما كنت توقفت عن الكتابة تماما لولاها. كما أن خدمة الإيميل خلصت العالم من ضياع الكثير من الوقت والجهد لإيصال رسائلهم ومقالاتهم إلى الجهات المقصودة. ذكر لي أحد الزملاء المصريين أنه كان يكتب في ست صحف مختلفة كل أسبوع، وأنه كان يستقل الأوتوبيس لإيصال مقالاته كل إلى الصحيفة المقصودة، متجشما عناء الزحام والانتظار.
ولقد كنت أستغرب من حب آبائنا للحياة الجديدة وتطوراتها العصرية، وعدم تبجيلهم الشديد لمعاناة الماضي. أذكر أنني قلت مرة لوالدي رحمه الله؛ ما أجمل الحياة القديمة! فقال: وما الجميل فيها؟ لقد مشيت وأنا صبي من دبي إلى الشارقة، فأين الجمال في ذلك؟
في المقابل، ظل ذلك الجيل محافظا على طقوسه القريبة من نفسه حتى النهاية، مثل الالتصاق بالنخل والأرض وتربية المواشي، والمحافظة على بساطة التعامل والضيافة، وتقدير الأرحام والأصدقاء والجيران، إضافة إلى عدم السماح للعصرنة بالسيطرة أو الطغيان على حياتهم.. فلكل شيء وقته وقيمته عندنا. إذن، إيجاد التوازن في التعامل مع معطيات الحياة، هو العامل المهم في إجادتنا لها في أي وقت وزمن.
ولكي لا أنسلخ من جلد تحفظاتي السابقة مرة واحدة، لا بد من الاعتراف بأن شعور الإدمان، زاد عندي فعلا بوجود النت بين يدي في كل آن، وأن انشغالي به عن العالم المحيط أحيانا مما يزعجني، وأن وضع حدود لذلك هو ما أفكر فيه فعلا، وإلا تحولت من دون أن أدري إلى إنسان صامت مع الزمن.
إمساك زمام أمورنا يكون في بدايات كل طريق، وليس بعد المضي فيه طويلا، وينطبق ذلك على أبنائنا وتوجيهنا لهم.. ومنذ الأسبوع الأول لاستخدامنا لأي اختراع جديد تتكشف لنا الأمور، ولا يبقى إلا الحزم في تعاملنا مع أنفسنا. وكمثال فإن شقيقي، الذي أهداني الآيفون مع سبق الإصرار والترصد، لإخراجي من عزلتي الاتصالاتية، يحتفظ بالنوكيا للاتصالات العادية ويبقي الآيفون للتويتر وسفاري وغيرها من الاستخدامات النتية. وأراها طريقة جيدة، تبقي فيها الانترنت بعيدا عن يدك في الحقيبة أو الجيب، ولا تبقي في يدك إلا الابتلاء الذي صحنا منه زمنا، وصرنا نصيح على زمانه ونراه نعمة صافية بلا هم ولا أكدار.