يمثل التحقيق مع الرئيس المخلوع حسني مبارك وصدور قرار بحبسه سابقة فريدة في التاريخ المصري.

 

ودلالة على أن النظرة للحاكم قد تخلصت أخيرا وإلى غير رجعة من إرث فرعوني ظل كامنا في الضمير المصري منذ عهد الملك مينا،.

 

ولم يفلح الطغيان والاستبداد وسوء التصرف الذي شاب حكم زعماء كثر على امتداد أكثر من خمسة آلاف عام في إقناع جموع المصريين بنزع صفة تتراوح بين القداسة والأبوية في أسوأ الأحوال عن زعمائهم..

 

بل إن من يجلس على قمة السلطة كانت توهب له ولو كان عبدا حبشيا مخصيا، كما في حالة كافور الإخشيدي (الذي حكم ‬23 عاما بين ‬966 -‬989 م).

 

من هذه النظرة الشعبوية للحاكم ينبت الاستبداد.. فقد كان مبارك وقت استلام السلطة شخصا بسيطا جادا وصاحب سجل نظيف يؤمن مثل غيره أن الحاكم حاكم والمحكوم محكوم .

 

ولم يثبت أبدا أنه ناقش سلفه الرئيس السادات مناقشة جادة حول قرار أو سياسة ما، لدرجة انه كان محل استهزاء الوزراء وكبار رجال الدولة ممن رأوا فيه من يعتبر نفسه سكرتيرا لدى رئيس الدولة وليس نائب رئيس.

 

في مصر هناك دوامة مفسدة.. فالأزهر والكنيسة يبايعان ويباركان.. ورجال الإعلام تتخلق من بينهم كائنات لبلابية جاهزة دائما باسطوانات المديح والثناء ليس حبا في شخص الحاكم بقدر ما تعكس رغبة في تسلق أكتاف من هم أكثر منهم موهبة وكفاءة وعزة نفس.

 

واكتساب حظوة تفتح لهم مغاليق الأبواب، ولا عجب من أن يصعد الصغار الأخف وزنا وقيمة وفكرا،.

 

بينما يظل الكبار في السفح. وحين يجد المواطن البسيط قيادته الدينية ووسائل إعلامه تسبح بحمد شخص ليل نهار لا يملك إلا التصديق في نهاية المطاف، واعتبار المنتقدين خارجين عن السرب.

 

التغير الذي حدث في الضمير المصري يحتاج إلى ضفاف تحكمه وتؤمن سريانه في المجرى الصحيح، فعقول الناس لن تتغير هكذا بين يوم وليلة..

 

ومهما كان تأثير شباب الثورة الذين يتعاملون بعقول متحررة، فإن الواقع أكثر قسوة.. فالمتهافتون قرب دوائر الحكم لا حصر لهم.

 

والمادحون الذين يدبجون القصائد من الآن على استعداد للقفز على هذه الحالة من الوعي النادر، ولا يمكن تجنب تكرار نفس السيناريو البائس مع الحاكم إلا بشخص ينفر بطبعه من المديح.

 

فيقرب الناصحين المخلصين ويعرف أنهم السند الحقيقي له وان اختلفوا معه، ويبعد أسراب الذباب القادرة ذهنيا ونفسيا على فعل الشيء ونقيضه بين يوم وليلة.

 

بالطبع هذه المواصفات المطلوبة في رئيس يساعد في ترسيخ قناعة المصريين بأنه (ابن امرأة كانت تأكل القديد)، وأن صاحب السلطة خادم للشعب وليس سيدا عليه، مواصفات تحتاج إلى قديس أو نصف نبي.

 

لكن حالة الوعي الثوري تجعلها موجودة، بل ومتجسدة في شخص مثل عصام شرف الذي أذهل المصريين حين حمل حذاء فلاحة مصرية وقربه لها بعد أن خلعته بعفوية كي لا تطأ به السجادة الفاخرة التي كان يقف بانتظارها عليها، يمكن أيضا أن تكون موجودة في آخرين ممن أعلنوا عزمهم خوض السباق الرئاسي،.

 

لكن المهم أن تظل هذه الروح، ولا تعصف بها تفاهات التافهين، فالشعوب كريمة في معظمها يملك فؤادها من يكرمها وليس من يستهين بها ويحتقرها.

 

وحين سقط مبارك بفعل الثورة تذكر المصريون مآثر من سبقوه في إكرام الشعب واحترامه، فأخذ الناس يستعيدون أحداثا لعبد الناصر كان فيها لين الجانب مع البسطاء وهو الذي يتحدى في نفس الوقت قوى متجبرة بكبريائه الذي يستمده من عظمة مصر.

 

كذلك لم ينسوا مشهدا للرئيس السادات وهو يحرص على تلقف شكوى مكتوبة من مواطن بسيط اخترق موكبه الرئاسي كي يوصل شكواه إلى يد الرئيس..

 

ويقارنون بين ذلك وبين مواطن من بور سعيد مزقه رصاص الحرس الرئاسي إربا حين حاول توصيل شكواه لمبارك.