مع بدء عودة الدولة في مصر لمهامها بدأت تعود ممارسات قامت الثورة من أجل نسفها.. فالأمن يعود مرة أخرى إلى المشهد الجامعي مكبلًا أحلام وطموحات أجيال مصر الشابة، والشخصيات التي لاذت بالظل لأنها محسوبة على النظام السابق بدأت تعاود الظهور مرة أخرى، بل وتدعي أن لها أيادي بيضاء على الثورة، كما بدأ الحزب الذي حكم مصر وحكم عليها بالخراب لنحو ثلاثة وثلاثين عاماً في لملمة شتاته وتجميع المستفيدين من عرقلة خطى الإصلاح، وفي نفس الوقت بدأت جماعة الإخوان، التي التحقت بالثورة بعد نجاحها، تتصرف وكأنها الحاكم المقبل للبلاد فتدخل في صفقات ومساومات، وتمنع أعضاءها من المشاركة في احتجاجات تهدف إلى حراسة مكاسب الثورة وحمايتها من أن تتبدد.

كأن ثورة ‬25 يناير تحتاج إلى ثورة أخرى تطيح فعلياً بالوجوه والممارسات التي عادت تطل بوجهها القبيح، فالشرطة في الأقاليم تعيد إنتاج ما كانت عليه، حيث عدسات الإعلام غائبة، بينما تنسحب من المشهد في القاهرة تاركة الفوضى تطل برأسها حتى تنحني الجهات التي تسير البلاد لمطالبها وتتركها تسرح وتمرح وتتجاوز القانون كما شاءت، وكأن هناك استحالة للجمع بين حفظ الأمن وحفظ كرامة المواطن، وما حدث في مباراة الزمالك والأفريقي التونسي خير دليل، فالجميع قرأ ما حدث باعتباره عملًا سياسياً مناهضاً للثورة وليس انفلاتاً أمنياً.

ما يضاعف الخطر أن الوقت المتاح قبل الانتخابات لا يتيح الفرصة لتبلور قوى جديدة تخوض معركة اختيار أول برلمان بعد الثورة، ولا شخصيات جديدة تستطيع خوض الانتخابات الرئاسية، ويبدو أن القوى التي تدير البلاد تفضل شخصية مثيرة للجدل من الجيل القديم على الوجوه الشابة، فالمقال الذي كتبه نبيل العربي وزير خارجية مصر الحالي يمثل عريضة دفاع عن الدكتور محمد البرادعي، وكأن هناك اتجاهاً لدعمه بما يتناقض مع روح العهد الجديد.

صحيح أن فتح الباب أمام الترشح بالشروط السهلة التي أعلن عنها سيشجع شخصيات لا علاقة لها بالعمل السياسي على خوض السباق، كما أن ‬30 عاماً من الاستبداد المطلق لم تترك الفرصة لتشكل زعامات قادرة بشكل فعلي على إدارة بلد بحجم مصر، وليست هناك فرص إلا للوجوه القديمة التي نشأت في كنف النظام السابق او استطاعت ان تشق طريقها رغماً عن سطوته الأمنية، لكن يجب أن يتم ترك الأمر للناخب يختار من يشاء، فالرئيس أو نائب الشعب الذي سيأتي عبر عملية انتخابية حرة ونزيهة، يمكن محاسبته وسحب الثقة منه عبر نفس الصناديق، ومن ثم فإن من الضروري أن تبتعد الدولة عن التأثير على إرادة الناخبين بوسائلها المعروفة.

هناك دور للدولة يجب ان تلتزم به ويتمثل في حفظ الأمن وحماية الحدود وتسيير الحياة عبر الالتزام بالقوانين وليس عبر المناكفات التي تستهدف في النهاية تجاوز القانون من جانب من يفترض أن يكون ساهراً على إنفاذه، كذلك يفترض أن يترك الإعلام يمارس دوره دون أن يتلقى تعليمات من احد، فأي تدخل للتأثير على الحراك السياسي الذي تمر به البلاد ليس إلا استهانة بوعي الناس وبقدرة الجماهير على اختيار الأصلح.

أما اذا تصرفت كل حكومة بمقتضى ما كان سائداً في السابق ونسيت أنها كانت يوماً تناضل من أجل إسقاطه، فذلك له معنى وحيد، ومعناه أن الثورة لم تستطع إفراز من يعبر عنها بشكل حقيقي، وبهذا تكون نصف ثورة، وجميعنا يعرف عواقب أنصاف الثورات. فهي كما يقول مثل صيني ليست إلا أكفاناً للشعوب.