هل حققت الثورة المصرية أهدافها، وعلى الثوار الآن أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية والجيش إلى ثكناته؟ أم أن كل ما حدث في مصر ليس إلا بداية طريق طويلة محفوفة بالصعاب؟
أميل إلى الاعتقاد بأن الثورة أزاحت مجرد حجر كبير كان يقف سدا في وجه الحراك السياسي، لكن التغيير الذي أرادته الثورة لم يتم بعد، فالذين يديرون دفة الأمور لم يستوعبوا أن ما كان مناسبا للماضي لم يعد يلائم الحاضر سواء تعلق الأمر بالسياسات أو الأشخاص.. ذلك لأنه ليس أمامهم إلا نخبة في معظمها كانت فاسدة، ومجتمع كامل ثائر عليها لم يفرز بعد قياداته ونخبه الحقيقية المعبرة عن ضميره العام.. ومن ثم فإن الاختيار من بين النخبة السابقة مهما صلحت النوايا لن يؤول في نهاية المطاف إلا لأقلها سوءا.. ومن هنا كان اندهاش الناس من اختيار زاهي حواس وزيرا للآثار، فالرجل ليس مجرد أحد من سكتوا خلال العهد السابق عما كان يجري، بل شارك بفعالية في ممارسات يعاقب عليها القانون رغم احترامنا لعلمه وخبرته الطويلة في هذا المجال. ويبدو أيضاً أن المجلس العسكري والحكومة الجديدة لا يبذلان جهدا كبيرا في انتقاء الكوادر التي تناسب الروح الجديدة.
كما يغلب التردد على ممارسات الجهتين، فرئيس ديوان رئيس الجمهورية السابق يظل في موقعه الحساس على مدى نحو 50 يوما دون سبب يذكر، وبما يخل بالرغبة في التفتيش عن مخالفات السلطة السابقة.. والإعلان الدستوري الصادر الأربعاء الماضي يعيد ما كان منتقدا، فيترك تعيين ثلث أعضاء مجلس الشورى، في يد رئيس الجمهورية، بل ويترك له حرية تعيين نائبه في غضون 60 يوما من توليه مقاليد السلطة، ولا يعرف أحد لماذا لم يتم النص في الإعلان على الانتخاب الحر المباشر لكامل أعضاء الشورى ولنائب رئيس الجمهورية؟ خاصة إذا كان التيار العام في المجتمع يطالب بانتخاب رؤساء تحرير الصحف وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات والمحافظين أم أن منصب نائب الرئيس أقل أهمية من منصب رئيس تحرير صحيفة؟
لاشك أن الإعلان الدستوري يحمل كثيرا من المزايا لكنه يبدو كمن يمسك بالعصا من المنتصف، بما يثير الشك حول حقيقة وجود قوى تحاول الالتفاف على الثورة، وتوحي أنها تناصرها.. لكنها تبغي إجهاضها.
ولأن إزالة النظام السابق لم يكن مطلوبا لذاته فقط بل كان مطلوبا لإنهاء عهد من الإفساد وتخريب الذمم وإغراق المجتمع بقيم سلبية، فإن خطوة رحيل النظام لها ما بعدها.. فالنخب التي شاركت في إفساد ما مضى قادرة على أن تفسد علينا غدنا، وليس الخطر فيمن ظل ثابتا على موقفه وقناعاته (إن كانت هناك قناعات).. بل الخطر الحقيقي فيمن أعادوا ضبط موجاتهم وغيروا خطابهم كأنهم لم يقولوا عكسه بالأمس.. ومن بوادر غسيل الأدمغة التي يمارسونها محاولة الإيحاء للناس بأن الرئيس السابق وعائلته والمحيطين بهم لم يكونوا على علم كاف بما يجري.. وأن هناك من ضللوهم وصوروا لهم الأمر على غير حقيقته. محاولة التبرئة هذه ترافقها عملية تقديم أكباش فداء من أناس لم يكونوا إلا جزءا من المنظومة، فالآن يصبح حبيب العادلي وزير الداخلية السابق ومعاونوه وأحمد عز هم رأس الأفعى على نحو مناقض بشكل فاضح لما كان يجري.
لم تطرح الثورة في أدبياتها عبارة تصفية النظام السابق رغم أنها مطلوبة بشدة ليس فقط لرؤوسه وإنما أيضاً لقاعدته التي أتاحت للرؤوس الاستناد عليها، كما لم تطرح عبارة تغيير القيم السلبية التي أوجدتها الفترات السابقة من رشاوى واستغلال نفوذ وفهلوة وبلطجة وعدم احترام للقانون.. وعلى ذلك فإن ما جرى من ثورة مثلت نموذجا غير مسبوق للثورات يصبح مهددا وقابلا للإجهاض في أي لحظة.. فالمستفيدون من النظام السابق تقتضى إزاحتهم من المشهد، ما زال هناك معارك طويلة ومستمرة لسنوات.