لأن من فجروها مجموعة من الشباب ومن ساندوها بحق أطهر وأنبل مناضلي مصر، فإن الثورة المصرية تعاملت بشكل مخملي مع الواقع المصري لا يتناسب مع جهامته وقسوته، تماما مثلما توكل أمر إعدام مجرم خطير إلى قائد أوركسترا تهز روحه رعشة الوتر.
دعك من السياسيين والمتسلقين الذين ذهبوا إلى الميدان مع من يحملونهم على الأعناق لالتقاط صورة، وانظر إلى قائمة المتيمين الذين كانت تفيض أعينهم بالدمع من زين العابدين فؤاد إلى شفيق أحمد علي مرورا بعزازي علي عزازي ويحيى القزاز وإبراهيم منصور وعبد العظيم مناف وإبراهيم بدراوي وسكينة فؤاد وجلال عارف وعصام شرف وعبد المنعم أبو الفتوح.. وآلاف غيرهم ممن كانوا في المشهد وممن غيبهم البعد وطوتهم المسافات، لا تتأمل كثيرا في الصور فهي تبطن مالا تظهر، كان الميدان أشبه بالبحر، الغثاء يصعد والجوهر يكمن.
شباب مصر كانوا يتصرفون بقلوبهم، وقلوبهم كقلوب اليمام يخشون على ارض مصر من وطأة أقدامهم ويعتبرونها زهرة يخشون ذبولها إذا ما قبضوا عليها بأيديهم.
حتى حينما ذهبوا هرولة إلى القصر الجمهوري يوم 10 فبراير لم يقتحموه لمجرد أن ضباط الجيش اقسموا لهم أن مبارك ليس موجودا بالداخل فاكتفوا بمحاصرة القصر دون اقتحامه ولم يكن من الجيش وقد تصرف هؤلاء على نحو رومانسي، إلا أن قدم لهم إفطاراً.
هل كان هؤلاء سيتصرفون بغلظة وهم الذين قاوموا الرصاص بالأغاني، واستعانوا بدفء الوطنية لمقاومة برودة الجو، وتوشحوا بالعلم الوطني ليكون درعهم في مواجهة آلاف؟
كان طبيعيا أن يتسامح الثوار مع بقاء مبارك وعائلته في شرم الشيخ وأن يتركوا القانون والقضاء يتصرف وفق قوانين عادية لا وفق قوانين ثورية، وكان طبيعياً أن يتسامحوا مع السلخانات التي أقيمت في المتحف المصري وشارك فيها ضباط أمن دولة، وطبيعيا أن يتسامحوا مع كتاب وصحافيين وصفوهم بالأمس القريب باعتبارهم مخربين يتلقون دعما من الخارج واليوم يعتبرونهم أبطالاً.
لم يحدث شيء في مصر، فقدر النخبة تم تقليبها فقط وتزيينها فتوشحت بما يناسب العهد الجديد خالعة رداءها القديم. ومن ثم كان طبيعيا أن تتحرك أفاعي الثورة المضادة، وأن يجد الجيش نفسه حائرا فيما يفعل. مرات يعتبر نفسه حكما بين القديم والجديد، ومرات يتذكر أن الثوار وهم بالملايين أودعوه ثقتهم ورموا بطموحاتهم وآمالهم في عبه.
اليوم نحتاج للتفريق بين ثوار اطهار لا يريدون إلا أن تعود مصر لكل أبنائها وبين محتجين فئويين أو متمردين يريدون إعادة ما كان لهم من نفوذ وسطوة غير قانونية، نحتاج لقوانين ودساتير تبني البلاد على أسس صحيحة وليس لقوانين يتم تفصيلها لتناسب حزبا بعينه أو تيارا بعينه، وعلى الأحزاب والتيارات أن تتعامل بقدر من التواضع ولا تتصور أن مصر في مرحلة انتقالية قبل تسليمها لهم.
ميدان التحرير باق والضمير الوطني في قمة وعيه وتوهجه، وكل ما ينقص هو مجموعة من الإجراءات الحاسمة تخلص مصر من الآكلين على كل الموائد، والمتواطئين الذين يريدون أن يكون غدنا مثل أمسنا، ليس اقتناعا بأن الأمس كان ملبيا لطموحات الوطن ولكن لمجرد انه كان يلبي طموح حفنة من الأشخاص.
نحتاج وقتا ليدرك الثوار ومن ساندوهم أن كثيراً ممن أودعوهم ثقتهم ليسوا أهلا لهذه الثقة وأن المناضلين الجذريين لم يكن يسمح لهم بفتح أفواههم أو الظهور على الشاشات، ووقتا ليدركوا أن التيارات التي ركبت الموجة والتحقت متأخرة بالميدان لم تكن أصيلة في مواقفها وإنما فعلت ذلك بشكل براجماتي، ومن ثم فإن ترك القيادة لها ليس إلا عملية تشبه نقل حراسة الشاه من ذئب إلى ذئب آخر.