مصر أمام جيل مختلف.. فهم اللعبة من بدايتها على النحو الصحيح.. عرف مبكراً نوع النخبة السياسية التي فتح عينيه عليها، فتعامل بسلبية مع السياسة وأحزابها الورقية، وتركها خراباً، لأنه كان يدرك ببصيرته أن البناء فوق مستنقع نوع من السفه، كان على حق وكنا على خطأ.
هذا الجيل يتفجر وطنية وحماسة، كثيراً ما نعته جيلنا باللامبالاة والسطحية، لكنه كان في حقيقة الأمر أكثر منا عمقا ووعيا بمتطلبات عصره، هو يدرك ما له وما عليه، لا يمنح لأحد فرصة ركوب موجته، ولا فرض وصاية عليه، وبينما ظل كثيرون يراهنون على بطل مخلص، ظل بطله المخلص بطلا جمعيا نابعا من الوعي العام والضمير العام، وكان على حق وكنا على خطأ.
ليس جيلا عبثيا كما اتهمه بعضنا، بل يعرف جيدا أين يضع قدمه، وكيف يعبر عن رأيه وبأعلى صوت ممكن دون أن تمتد يده لإتلاف شيء أو ترويع أحد، يتعامل بحنان ورقة مع الناس والأشياء، حتى أولئك الذين يقفون على الناحية الأخرى منه ويمسكون بالهراوات وقنابل الغاز لقمعه، وببصيرة نافذة يرى أنهم مثله مغلوبون على أمرهم، لا تصح معاداتهم وإن مارسوا قهره، ومرة ثالثة كنا على خطأ وكان على حق.
ضابط أمن تلهب مشاعره هتافات المتظاهرين فينضم إليهم، فيرفعه المتظاهرون فوق الأعناق، ويخرج مسدسه «الميري» ويطلق النار في الهواء ابتهاجاً بأنه وجد ذاته وسط الجموع، وخرج من محبسه وراء خوذته وزيه ومهامه الرسمية التي تملي عليه أن يقف في وجه إرادة الناس، وكثيرون غيره ينفذون الأوامر وقلوبهم تقطر أسى، لاعنين وظيفتهم التي تريد وضعهم موضع الجلاد، بينما هم ضحايا وأكثر.
متظاهر يواجه وحده سيارة خراطيم المياه ويحاول تعطيلها للحفاظ على تجمع في أحد الميادين دون أن يخلخله شيء، وشباب يحملون كراتين المياه والوجبات الخفيفة بقدر ما سمحت به حافظة نقودهم ليوزعوها على المعتصمين في ميدان التحرير وسط القاهرة، لا يربطهم بمن يوزعون عليهم الماء والطعام شيء إلا الحلم الواحد والهتاف الواحد، القوي يرأف بالضعيف، والرجال يحيطون بالفتيات والنساء لحمايتهن من أي تعرض لمهانة، المتحرشون الذين ملأوا وسائل الإعلام بضجيجهم اختفوا تماما، فالأنثى ليست فريسة على أي نحو، وإنما أم أو أخت أو ابنه، تجد من يحدب عليها لتعود إلى بيتها في الرابعة صباحاً دون أن تخدش مسمعها كلمة أو إشارة نابية.
هذه مصر التي نعرف، والتي ظللنا نعشق، رغم التراب الذي أهيل عليها، والتي كان الرهان أنها ستنفض ذات يوم قريب غبارها لتعود بهية جميلة في كامل رونقها وزينتها، فالاحتجاج ليس معناه التخريب، وإنما الحفاظ على الممتلكات العامة وصونها، والمطالبة بالتغيير تنتهي بتغيير كل ما هو سيئ وفاسد، أما الذين ظلوا محافظين على نقائهم وطهارة يدهم وطهارة عقولهم فيظلون فوق الرؤوس، بل هناك دعوات إلى أن يشاركوا في التغيير ويكونوا جزءًا منه، فالهدم ليس الغاية، وإنما تصحيح عيوب هذا البناء الوطني، الذي بدلاً من أن يكون شامخاً، تصاغرت به أهواء ومصالح وجهل مطبق.
الذين أساؤوا لمصر لو كانوا يعرفون قيمتها ما أساؤوا أبداً إليها، وربما تشملهم قاعدة العذر بالجهل، هذا إن ثبت حسن نيتهم في ما اتخذوا من قرارات، وبدلوا من سياسات، جعلت العملاق المصري يغفو تاركاً دوره نهباً لمن يستحق دوراً ومن لا يستحق.