أثبتت تداعيات حادث كنيسة القديسين بالاسكندرية أن هناك التحاما شعبيا رائعا في مصر وحسا وطنيا صلبا يتعامل بوعي ويدرك الأخطار، كما حاولت السلطة تنفيس الغضب القبطي وإن شاب الخطأ بعض الممارسات، غير أن جرس انذار قويا انطلق وسط التلاحم ويحتاج وقفة جادة، فهناك قلة متطرفة على الجانبين تحتاج لمن يداويها على عجل، ذلك أن التطرف أصبح ينتشر كالسرطان في أوطاننا العربية ممتطيا صهوة التيبس السياسي وغياب الديناميكية التي تتيح تداول السلطة.

ربما كان ابشع ما نثر الغبار على مشهد التلاحم بيان اصدره واحد من أقباط المهجر هو موريس صادق ويطالب فيه بقيام دولة حكم ذاتي للأقباط في مصر تزامنا مع استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، وهو ما سارعت مصادر كنسية مصرية إلى وصفه بأنه «مجرد خيال وتخريف ووهم مدفوع الأجر»، كذلك كان الصليب في المظاهرات القبطية الغاضبة عملا غير حكيم يصادر الهوية الأهم لصالح هوية من الدرجة الثانية، إذ كان الظرف والوعي الوطني يفرضان تغليب لافتات أو شعارات ترمز إلى مصر كلها بمسلميها قبل أقباطها.

صدمني ايضا بيان للداعية وجدي غنيم عن الأحداث اسفر الرجل فيه عن قلة حكمة يجب ان يتصف بها أي داعية، ففي خضم الغليان أخذ يصف الأقباط بأنهم «صليبيون» رغم معرفته المفترضة بالدلالات التاريخية للكلمة، وهي دلالات تجعلها منفرة اذا ما وصفت بها أي طائفية مسيحية في دولة غربية مهما كانت تناصبنا العداء، فما بالنا بأقباط مصر الذين ورد فيهم حديث نبوي شريف مرفوعا في صحيح مسلم يقول «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما». ولم يكن وصف وجدي غنيم للأقباط بالصليبيين هو الكارثة الوحيدة بل طالبهم بالرحيل عن مصر الإسلامية «إذا لم يكن يعجبهم حالها»، وربما تفيد المقارنة بين خطاب الدكتور يوسف القرضاوي وخطاب غنيم حول الحدث نفسه في معرفة الغث من السمين والخطاب العاقل من الخطاب الأحمق. ربما يتسامح المرء مع ظاهرة دعاة الفضائيات بكل ما فيها من شطط لكن أن تنجر هيئة يفترض فيها التعقل والتبحر في الفقه والحكمة إلى خطاب طائفي على نحو ما تفعل جبهة علماء الأزهر فتلك مصيبة.

فأي متصفح لموقع الجبهة الإلكتروني يدرك لأي مدى يمكن أن يخيب الظن بالعقلاء، وأن هناك حالة عامة من افتقاد الفطنة واهمال قواعد فقهية بديهية مثل «أخف الضررين» و«درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

فليس من الأوليات التي تهم المصريين الآن الحديث علنا عن نجل قيادة كنسية جلب أطنان متفجرات من إسرائيل على متن سفينة يملكها، فذلك شأن أجهزة الأمن والنيابة ولم يكن يجب أن يصبح موضوعا لإصدار بيانات ممهورة بخاتم الجبهة، كما أن الحديث عن دعم ملياردير مسيحي لحملات تبشير في مصر والتعليق على تصريحات البابا شنودة بالتحقير حينا والعداء حينا آخر، إنما يوسع الفجوة ويكسر الرابطة التي نسجها التاريخ بين أبناء الوطن الواحد.

الموضوع يحتاج إلى معالجات عاقلة وتوافقات بين الحكماء من الجانبين والدولة، فالمشاكل التي نتصورها هينة وتافهة يتم النفخ فيها وتضخيمها حينما تكون الأوطان مستهدفة. كما أن المكاشفة والشفافية يمكن ان تحل نصف المشاكل، ولنا في خطاب القاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لدى افتتاحه كاتدرائية العباسية نموذج يمكن ان يتبع، فالدولة مسؤولة عن مواطنيها مسؤولية تامة دون تفرقة بسبب دينهم أو عرقهم، لم تعرف مصر التمييز على أساس ديني الا في منتصف السبعينيات حيث بدأت مفاصل الدولة في التفكك، أما قبل ذلك فقد كان الجميع متساوين، الأولوية للكفاءات في كل المجالات، وحين يغيب معيار الكفاءة وتدخل في الحسابات معايير أخرى غير منطقية تختل الموازين وتبدأ الأحقاد.