ليست الحياة هي ما نعيشه، وإنما هي ما نتذكره، ويبقى في الذاكرة، ومن ثم نرويه.

تذكرت هذه العبارة العميقة، لغارسيا ماركيز، والتي يبدأ بها سيرته الذاتية، حينما كنت أضحك من قلبي، على تعليقات أطفال العائلة التي تفجرت، لما سمعوا شقيقتي تطلب، حبة زيتون من سلة فواكه كانت إزاءنا.

الزيتون كان المسمى الذي يطلقه البعض في زمان ولى على فاكهة الجوافة، وعلى الرغم من التطور الطبيعي الذي يطرأ على كل مفردات اللغة المحكية، إلا أن البعض ما زال متمسكاً ببعض مفردات ما يعتبرونه زمناً جميلاً، أجمل من الزمان الذي يعيشونه الآن.

وقد شن الصغار حرباً إلكترونية ضروساً على مفردة: الزيتون، فما هي إلا ثوانٍ، حتى كانت صورة الجوافة تبث عبر أجهزة البلاك بيري، وسرعان ما ترد التعليقات من كل فج عميق للسخرية من المفردة، وممن يستخدمها!

دفاع الصغار عن مفرداتهم وأيامهم كان مستميتاً، إلى درجة أن الحرب الإلكترونية دفعتني وأختي إلى الاستسلام والصمت والاكتفاء بالضحك على تعليقاتهم، راضخين للديكتاتورية التي مورست علينا، وحرماننا من التعبير عن حبنا لمفردات زمان يعرفنا ونعرفه.

ولما انفضوا من حولنا، تحدثنا مطولاً وعرجنا على الماضي، الذي مازال الحنين يشدنا إليه، ويأخذنا رغماً عنا، وهي كما يبدو حالة عامة بين كل الأجيال اللاحقة والسابقة، ولا أحسب أنها تنبثق عما يسميه البعض بصراع الأجيال.

أتلقى يومياً من القراء الكثير من الرسائل التي تفتح بوابات الحنين في القلب، وتقول قارئة رقيقة: مع نهاية السنة الدراسية كانت المدارس تفتح أبوابها أمام الطلبة لتبدأ «مراكز زايد لتحفيظ القرآن الكريم» في استقبال الطلبة الذين يحفظون في كل عام جزءاً وفي نهاية المدة يحصلون على مكافآت مادية 600 درهم، وهي مكافأة لم تكن قليلة آنذاك هدية من والد الجميع، رحمة الله عليه وغفرانه.

وتقول رسالة أخرى: كان الصيف موسم «النبج» أي النبق واللوز، لم تسلم أي شجرة في الفريج أو في أي بيت من قذفها بالأحجار ومن كان يرتدي شيئاً في قدميه كان سلاحه لقطف الثمار، أما النخلة فلم نكن نقترب منها، لأن لها حرمتها وأصولها وطقوسها في التعامل مع ثمارها، لكن لا بأس من التقاط «الخلال» المتساقط تحتها.

في الماضي كنا نستلم قبل نهاية السنة الدراسية قطعة صوف وأخرى من قطن ومبلغ 300 درهم، ومع بداية السنة الدراسية الجديدة كان الطلبة يتساوون في الزي والمأكل، فلا تكاد يتمايز ابن الخفير على ابن الوزير، ومن ينجح كان الاحتفال بنجاحه في الفريج بتوزيع زجاجات المرطبات على الجميع، في جو يفوح برحيق التآلف.

وكان بائع السمبوسة «بابو» فرحة الأطفال، ينتظرون سماع صوته بفارغ الصبر، حينما يحوم في الفريج يحمل كرتونته التي تحتوي أيضاً على السندويتشات وزجاجات «الدقوس» الحار.

زمان لم يكن معظم الآباء متعلمين، ولا معظم الأمهات، وكان الأطفال يتفوقون من دون الحاجة إلى دروس خصوصية، وكانت للأم سلطة وللمعلمة سلطة وللعصا الخشبية سلطتها أيضاً، كان منظرها كافياً لأن يبتلع الطفل ريقه، خوفاً من وقوعها على لحمه الغض الطري، فتخلف فيه الوجع والآلام والعلامات الحمراء!

وقد ساهمت هذه العصا الغاشمة في أن يحفظ معظمنا القرآن غضاً، ويتقن قواعد القراءة والإملاء، وهي على الرغم من كونها وسيلة غير تربوية، تبقى حتى الآن جزءاً أصيلاً من زماننا الذي راح.