في تأمل لما يجري في التقنية راهناً وما سيتولد عنها في المستقبل المتوسط سيشهد العالم تغيرات جمة تطال كل شيء. هذه حقيقة لا تبدو مدهشة، كونها أصبحت خلفنا. ضمن تلك التغيرات التي ستحدث في العالم شكل الجلوس في الأماكن العامة كالمقاهي والمطاعم. الرواد سيظلون هم أنفسهم بل سيزدادون، لكن حلقة الجلوس وشكلها سوف يتغير. هل للمسألة علاقة بالسلوك البشري أم علاقة بالعمارة الداخلية ومساحات الضيافة؟
كثيرون زاروا بلدان العالم، وقيض أن أكون منهم، من أوروبا إلى الأمريكتين، فأستراليا إلى آسيا فأفريقيا. في خلال تلك الزيارات السياحية - الاستكشافية، لم أرَ في مطعم أو مقهى دخلته، طاولة بكرسي واحد، في كل مكان طاولة بكرسيين وبأربعة كراسٍ أو خمسة وأكثر. استحالة وجود طاولة مفردة، ما عنى لي رمزياً - وهذا موضوع أثير وطويل - بأن الحياة تعاش أجمل بشخصين اثنين، يسند أحدهما الآخر، ويؤنس وحشته: زوج وزوجة، أب وابنه، أم وابنتها، أخوان، صديقان. لا أحد يتخيل غير هذه المشهدية الاجتماعية، الطبيعية، فغيرها استثناء من القاعدة أو خروج عليها.
الطاولة المفردة أتوقع رؤيتها قريباً؛ فالشعور المتزايد لإنسان اليوم، بعدم حاجته لإنسان آخر مثله، يجالسه إلى طاولة، يؤنسه ويسليه، ويتجاذب معه أطراف الحديث وتبادل النكات، يؤكد أن الشخص مستكفٍ؛ كفاه أنه يمتلك هاتفاً حديثاً، مدججاً بشبكة إنترنت من الوزن السريع فائق القدرات، يمخر بها البحور السبعة، ويجولُ قارات العالم الخمس، بحثاً عن كل شيء معرفياً وترفيهياً وما بينهما.
الطاولة المفردة ليست عنواناً لمرحلة مقبلة، بقدر ما تجسد (العزلة الرقمية)، الجلوس الفردي برغم الزحام. هذا التحول يزداد فيتغير معه السلوك الاجتماعي. الهاتف غيّر ديناميكية ارتياد الأماكن العامة. الطريف الصادم في دراسة للعالمة الأمريكية شيري توركل بعد مشاهدتها خمسة أشخاص على طاولة، كل منهم مشغول بهاتفه، أنها أطلقت مصطلح (مجتمعون وحدنا - Alone Together)، وبرغم ذلك أظل مقتنعاً بأهمية التقنية وسيلة للتحول الثقافي والاجتماعي.